حكم مسح الرقبة في الوضوء: دراسة فقهية موسعة
تعرف على حكم مسح الرقبة في الوضوء وآراء المذاهب الأربعة مع الأدلة الشرعية، وبيان الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وما هو القول الراجح في المسألة، وهل يعد مسح العنق سنة أم بدعة؟"

-
مقدمة
الوضوء هو مفتاح الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا به، وقد عني الشرع ببيان كيفية الوضوء وصفته بالتفصيل في الكتاب والسنة، حتى لا يختلف الناس في أركانه وسننه وهيئاته. ومن المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء مسألة: هل يستحب مسح الرقبة في الوضوء؟
وهذا السؤال يتكرر كثيرًا بين الناس، خصوصًا مع تداول بعض الأحاديث والآثار التي تنسب استحباب مسح العنق أو الرقبة عند الوضوء. في هذه المقالة سنعرض آراء المذاهب الفقهية، ونبيّن أدلة كل فريق، مع تحليل الروايات الواردة، للوصول إلى القول الصحيح الراجح. -
محل الخلاف في المسألة
- اتفق العلماء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء أو واجباته، وأنها مما ثبتت به السنة الصحيحة.
- لكنهم اختلفوا: هل يُستحب مسح الرقبة أو العنق أثناء الوضوء؟
- اتفق العلماء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء أو واجباته، وأنها مما ثبتت به السنة الصحيحة.
-
آراء المذاهب الفقهية
1- مذهب الحنفية
- ذهب الحنفية إلى استحباب مسح الرقبة بظهر اليدين، بشرط أن لا يكون المسح على الحلقوم (أمام العنق).
- ورُوي عن بعضهم أنه سنة مؤكدة، لا مجرد مستحب، مستندين إلى آثار مروية عن الصحابة وأحاديث ضعيفة.
- جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: أن عند الحنفية روايتين: إحداهما أن المسح مستحب، والثانية أنه سنة.
2- مذهب المالكية
- صرح المالكية أن مسح الرقبة مكروه، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولأن فعله من الغلو في الدين، والغلو منهي عنه.
- قال الإمام الدردير: مسح العنق بدعة مكروهة.
3- مذهب الشافعية
- للشافعية في المسألة أربعة أقوال:
1. يسن مسح الرقبة بماء جديد.
2. يستحب ولا يقال مسنون.
3. يستحب بماء الرأس والأذنين.
4. لا يسن ولا يستحب، وهو القول الراجح عند المحققين من الشافعية كالنووي.
- رجّح الإمام النووي أن الصواب هو عدم الاستحباب، لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة أو موضوعة.
4- مذهب الحنابلة
- ذهب الحنابلة إلى أنه لا يستحب مسح الرقبة، لعدم ثبوت دليل صحيح فيه.
- قال ابن قدامة في المغني: ليس مسح العنق سنة في الوضوء، ولا نعلم فيه خلافًا عن أحمد.
- ذهب الحنفية إلى استحباب مسح الرقبة بظهر اليدين، بشرط أن لا يكون المسح على الحلقوم (أمام العنق).
-
الأحاديث والآثار الواردة في المسألة
1- الأحاديث المروية في مسح الرقبة
- حديث ابن عمر: من توضأ ومسح يديه على عنقه أمن الغل يوم القيامة.
- حكم العلماء عليه بالضعف بل بالوضع. قال ابن القيم: باطل لا أصل له.
- حديث: مسح الرقبة أمان من الغل.
- قال العلماء: موضوع، ليس من كلام النبي ﷺ.
2- حديث: أنه ﷺ مسح رأسه حتى بلغ القذال وهو أول القفا.
- رواه أبو داود، وضعفه الألباني.
- القذال هو مؤخرة الرأس، وليس المقصود الرقبة.
3- أقوال الأئمة في ضعف هذه الأحاديث
- قال النووي: لم يثبت فيه شيء، والأحاديث فيه ضعيفة أو موضوعة.
- قال ابن تيمية: لم يصح عن النبي ﷺ أنه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا روي ذلك في حديث صحيح.
- قال ابن القيم: لم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة.
- حديث ابن عمر: من توضأ ومسح يديه على عنقه أمن الغل يوم القيامة.
-
أقوال كبار العلماء
- ابن تيمية: لم يستحب ذلك جمهور العلماء، ومن ترك مسح العنق فوضوءه صحيح باتفاق العلماء. (مجموع الفتاوى 21/127).
- ابن باز: لا يستحب ولا يشرع مسح العنق، وإنما المسح للرأس والأذنين فقط. (مجموع فتاوى ابن باز 1/221).
- النووي: الراجح عدم الاستحباب، لأن النبي ﷺ لم يفعله ولا أمر به. (المجموع 1/48).
- ابن القيم: كل الأحاديث الواردة في مسح العنق لا تصح. (زاد المعاد 1/195).
- ابن تيمية: لم يستحب ذلك جمهور العلماء، ومن ترك مسح العنق فوضوءه صحيح باتفاق العلماء. (مجموع الفتاوى 21/127).
-
مناقشة الأدلة
- الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة وضوء النبي ﷺ – كما في الصحيحين وغيرهما – لم تذكر مسح الرقبة.
- النبي ﷺ علّم أصحابه الوضوء مرارًا، وكان الصحابة يصفونه بدقة، ومع ذلك لم يذكر أحد منهم مسح الرقبة.
- القول باستحبابه اعتمادًا على أحاديث ضعيفة لا يصلح، إذ العبادات توقيفية، ولا تثبت إلا بدليل صحيح.
- الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة وضوء النبي ﷺ – كما في الصحيحين وغيرهما – لم تذكر مسح الرقبة.
-
الحكم الراجح
- اتفق العلماء على أن مسح الرقبة ليس فرضًا في الوضوء.
- اختلفوا في الاستحباب، لكن الراجح – وهو قول الجمهور – أنه لا يشرع مسح الرقبة لا استحبابًا ولا سنة، لعدم ثبوت دليل صحيح، ولأن في ذلك إدخال ما ليس من الشرع في العبادة.
- وعليه: من توضأ ولم يمسح رقبته، فقد توضأ وضوءًا صحيحًا كاملًا باتفاق الفقهاء.
- اتفق العلماء على أن مسح الرقبة ليس فرضًا في الوضوء.
-
الحكمة الشرعية
- ترك مسح الرقبة يوافق اتباع السنة الصحيحة، ويمنع من الوقوع في البدع والإحداث في الدين.
- العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للمسلم أن يزيد عليها شيئًا لم يفعله النبي ﷺ ولا أصحابه.
- ترك مسح الرقبة يوافق اتباع السنة الصحيحة، ويمنع من الوقوع في البدع والإحداث في الدين.
-
الخاتمة
يتبين مما سبق أن مسح الرقبة في الوضوء لم يثبت فيه حديث صحيح، بل أكثر ما ورد فيه ضعيف أو موضوع. ولذلك ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والنووي وابن القيم وابن باز وغيرهم، إلى أنه غير مشروع. أما الحنفية فقد استحبوه، لكن استحبابهم مبني على آثار ضعيفة.
وعليه، فالأولى للمسلم أن يقتصر على ما ثبت عن النبي ﷺ من مسح الرأس والأذنين، وأن يترك ما سوى ذلك اتباعًا للسنة الصحيحة، وامتثالًا لقوله ﷺ:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري ومسلم).