شرح حديث "أن تلد الأمة ربتها" – التفسير الصحيح لعلامة من علامات الساعة في ضوء أقوال العلماء

تعرّف على المعنى الصحيح لحديث النبي ﷺ "أن تلد الأمة ربتها" الوارد في حديث جبريل عن علامات الساعة، مع شرح العلماء مثل النووي وابن حجر وابن عثيمين، وبيان رمزيته الاجتماعية، وردّ القول الخاطئ بربطه باستئجار الأرحام. شرح موثوق ومفصل مع تحليل لغوي وشرعي وأخلاقي شامل.

  • مقدمة

    يُعد حديث جبريل عليه السلام الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أعمدة السنة النبوية الجامعة، إذ جمع أصول الدين: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وعلامات الساعة.
    ومن أكثر أجزائه عمقًا وغموضًا قول النبي ﷺ:

    «أن تلد الأمة ربتها»
    (رواه البخاري ومسلم)

    هذه الجملة القصيرة شكّلت محور نقاش علمي عبر القرون، إذ اختلف العلماء في تفسيرها بين الفهم الحرفي والاجتماعي والرمزي، لما تحمله من تصوير بليغ لانقلاب الموازين في آخر الزمان.

  • نص الحديث كاملًا وسياقه

    روى الإمام مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان، حديث رقم 8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

    "بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر... إلى أن قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان."

    فهذا الحديث جمع بين علامتين بارزتين من علامات الساعة الصغرى:

    1.   أن تلد الأمة ربتها.

    2.   أن يتطاول رعاة الشاء في البنيان.

  • التحليل اللغوي والبياني لعبارة «تلد الأمة ربتها»

    1. الأمة لغةً:

    هي المملوكة التي تُباع وتُشترى، وتُسمّى أيضًا الجارية أو السرية.

    2. ربتها:

    أي سيدتها ومالكتها (مؤنث ربّ)، والربّ في اللغة هو المالك المتصرف.

    وبذلك يكون ظاهر اللفظ أن الأمة (العبدة) تلد فتاة تكون سيدتها، وهذا انقلاب في المألوف، إذ لا تكون الابنة عادةً سيدة لأمها.

    3. الأسلوب البلاغي:

    يُعد هذا التعبير من أبلغ صور المجاز النبوي، إذ جمع بين الحقيقة التاريخية الممكنة (كثرة الإماء) والرمز الاجتماعي العميق (عقوق البنات لأمهاتهنّ).

  • أقوال العلماء في تفسير الحديث

    تفسير السلف والعلماء القدامى: المعنى الحرفي والاجتماعي

    ذهب جمهور الشراح الأوائل –كالنووي وابن حجر والقرطبي– إلى أن الحديث يُشير إلى كثرة السراري في آخر الزمان، بحيث تلد الأمة من سيدها ولدًا حرًّا، فيصبح ابنها أو ابنتها أحرارًا، وقد تؤول الظروف إلى أن يشتري هؤلاء أولاد الإماء أمهاتهم من غير علم، فيعاملونهن معاملة الرقيق.

    ▪️ قول الإمام النووي:

    "المعنى أن الإماء يلدن من مواليهن أولادًا أحرارًا، فيشتري الناس أمهاتهم وهم لا يعلمون، فيعاملونهن معاملة الإماء."
    (شرح صحيح مسلم 1/158)

    ▪️ قول ابن حجر العسقلاني:

    "فيه إشارة إلى انقلاب الأمور، بحيث يصير السيد مملوكًا والمملوك سيدًا، وهو من أشراط الساعة لانعكاس الأحوال."
    (فتح الباري 1/145)

    ▪️ قول القرطبي:

    "الحديث يُخبر عن تغيّر نظام الاجتماع البشري، وأن الرقيق يكثر حتى تلد الأمة من سيدها من يكون بمنزلة مالكها."
    (المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم 1/185)

    وهذه الأقوال متفقة على أن المعنى يرتبط بعصر كانت فيه ظاهرة الرقيق شائعة، فيصف الحديث تغيّر العلاقات الاجتماعية ضمن هذا الإطار.

    2. تفسير العلماء المعاصرين: المعنى الرمزي والأخلاقي

    مع انتهاء الرق في العصر الحديث، أعاد العلماء النظر في دلالة الحديث، فرأى عدد منهم أنه تمثيل رمزي لانقلاب القيم والعقوق الأسري في آخر الزمان.

    ▪️ قول الشيخ ابن عثيمين:

    "أن تلد الأمة ربتها أي أن يعقّ الأولاد أمهاتهم، فتجد الابنة تعامل أمها كما تُعامل الأمة سيدتها، وهذا من انقلاب الموازين."
    (شرح رياض الصالحين – باب علامات الساعة)

    ▪️ قول الشيخ يوسف القرضاوي:

    "الحديث يعبر عن اضطراب العلاقات داخل الأسرة، حتى تتسلط البنات على الأمهات، ويختفي البرّ والإجلال."
    (في ظلال السنة)

    ▪️ قول الشيخ صالح الفوزان:

    "ليس المقصود استئجار الأرحام كما يظن البعض، بل الحديث عن انقلاب القيم الاجتماعية وانتشار العقوق."
    (المنتقى من فتاواه 3/89)

    وهذا الفهم يجعل الحديث يتجاوز الإطار التاريخي للرق إلى دلالته الأخلاقية الشاملة، التي تنطبق على أي زمان يظهر فيه العقوق وانهيار التقدير للأمهات.

  • ردّ الادعاءات المعاصرة بربط الحديث باستئجار الأرحام

    في السنوات الأخيرة ظهر من يربط بين الحديث وظاهرة "الأم البديلة" أو ما يعرف بـ استئجار الأرحام، زاعمًا أن الأمة هنا هي "الرحم المؤجرة"، وأن "ربتها" هي صاحبة البويضة أو الأم البيولوجية.
    وهذا تأويل محدث لا أصل له في علم الحديث، وقد حذّر العلماء منه.

    ·        اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أكدت أن:

    "استئجار الأرحام عمل محرم، ولا علاقة له بحديث (أن تلد الأمة ربتها)، لأن الحديث يتعلق بعلامات الساعة، لا بالطب الحديث."
    (فتوى رقم 21239)

    ·        كما نصّ الشيخ ابن باز على أن هذا التفسير "من القول على الله بلا علم، ومن التكلف المذموم"، مؤكدًا أن الحديث لا علاقة له بالطب أو الأرحام الصناعية.

    إذن فربط الحديث بظواهر طبية حديثة يُعد مخالفة منهجية لفهم النصوص، ويُدخل معاني شرعية في سياقات لا دليل عليها.

  • المعنى الشامل والتكامل بين التفسيرين

    من خلال جمع الأقوال يمكن القول إن الحديث يتضمن طبقتين من المعنى:

    1.    المعنى الواقعي القديم:
    يشير إلى انتشار الرقيق والسراري حتى يختلط النسب وتُشترى الأمهات من أبنائهن دون علم.

    2.    المعنى الرمزي الأخلاقي:
    يُمثّل انقلاب الموازين بين الأجيال، بحيث يُهان الكبير ويُرفع الصغير، وتتحول العلاقات داخل الأسرة إلى صراع للسلطة لا احترام فيه للأمومة.

    وبذلك يكون الحديث صالحًا لكل زمان، يصف واقعًا ماديًا في زمنٍ ما، ورمزًا اجتماعيًا دائمًا في كل عصر.

  • الدروس والعبر التربوية

    1.    التحذير من العقوق:
    فالعقوق من الكبائر التي تُعجّل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.

    2.    وجوب برّ الأمهات وتوقير الكبار:
    مصداقًا لقوله ﷺ:

    «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك»
    (صحيح مسلم)

    3.    التنبيه إلى انقلاب القيم في آخر الزمان:
    وهو من مظاهر ضعف الإيمان وتضييع الحقوق.

    4.    وجوب الفقه في تفسير النصوص:
    فلا يُؤوّل الحديث على أهواء أو مصطلحات معاصرة دون دليل.

    5.    الإيمان بعلم الغيب النبوي:
    إذ صدقت نبوءات النبي ﷺ في وصف أحوال الزمان وتبدّل أخلاق الناس.

  • المصادر والمراجع العلمية

    1.   صحيح البخاري – كتاب الإيمان.

    2.   صحيح مسلم – كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام.

    3.   شرح النووي على صحيح مسلم.

    4.   فتح الباري لابن حجر العسقلاني

    5.   المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم – القرطبي

    6.   شرح رياض الصالحين – ابن عثيمين.

    7.   المنتقى من فتاوى الفوزان

    8.   فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (رقم 21239).

    9.   في ظلال السنة – يوسف القرضاوي.

    10.                   فتاوى ابن باز – قسم الحديث والعقيدة.

  • الخلاصة

    حديث «أن تلد الأمة ربتها» من أبلغ النبوءات التي صوّرت اختلال نظام العلاقات الإنسانية في آخر الزمان.
    فهو يدل على انقلاب الموازين الاجتماعية، وذهاب البرّ والرحمة، وتبدّل مكانة الأمومة.
    وقد أجمع العلماء أن معناه يدور بين كثرة الإماء في القديم وعقوق الأمهات في الحديث، ولا علاقة له بظواهر الطب الحديث كاستئجار الأرحام.
    إنه تحذير نبوي دقيق من زمنٍ يختل فيه ميزان البرّ والإكرام، ويُعامل فيه الوالد كأنه خادم لولده.
    فنسأل الله أن يرزقنا برّ الوالدين والتمسك بقيم الرحمة قبل أن يأتي زمن لا يُعرف فيه للوالدين حق ولا للأم مكانة.