من أشراط الساعة: شُحّ النفوس والبخل — داء العصر الذي حذّر منه النبي ﷺ
تعرف على معنى الشحّ الذي حذّر منه النبي ﷺ، وكيف يُعد من علامات الساعة الصغرى، وتأمل في خطورته على الإيمان والمجتمع، مع بيان الفرق بين الشح والبخل، وأثرهما في فساد القلوب وهلاك الأمم، كما ورد في القرآن والسنة.
-
مقدمة
من السنن النبوية العظيمة أن النبي ﷺ لم يترك جانبًا من جوانب حياة الأمة إلا نبّه عليه، ومن ذلك تحذيره من أمراض القلوب التي تُفسد الإنسان والمجتمع معًا. ومن أبرزها داء الشحّ، الذي وصفه النبي ﷺ بأنه من علامات الساعة الصغرى، فقال:
«يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحّ، ويكثر الهرج»
(رواه البخاري ومسلم).إنه تحذير نبوي بالغ الدقة، لأن الشحّ إذا تمكّن من القلوب دمّر العلاقات، ومزّق الأسر، وأفسد الأخلاق، حتى يصير الناس عبيدًا للمال، ويقدّمون مصالحهم المادية على كل القيم الإنسانية والدينية.
-
معنى الشحّ في اللغة والشرع
يقول ابن منظور في لسان العرب: الشحّ هو شدة الحرص على ما يملك الإنسان مع بخلٍ شديدٍ في بذله، ومنه قوله تعالى: {وأُحضرت الأنفس الشح} (النساء: 128).
أما الفرق بين الشحّ والبخل فهو أن البخل يقتصر على منع المال فقط، بينما الشحّ أعمّ وأخطر، إذ يشمل المال وسائر الحقوق، حتى في العطاء المعنوي كالمساعدة أو النصيحة أو المودة.وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: الشحّ أعمّ من البخل، لأنه يكون بالمال وغيره، وقيل إن البخل منع العطاء، أما الشحّ فمعه الحرص على الأخذ بغير حق.
-
الشحّ من علامات الساعة
وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الشحّ من علامات الساعة الصغرى التي تظهر قبل قيام الساعة، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحّ، ويكثر الهرج»
(رواه البخاري ومسلم).وفي رواية أخرى عن الطبراني في الأوسط:
«إن من أشراط الساعة أن يظهر الشحّ والفحش، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين».
قال الإمام النووي رحمه الله: إلقاء الشحّ يعني أنه يُجعل في القلوب حتى يصير طبعًا لازمًا، فيبخل الناس بحقوق الله وحقوق العباد، ويحرصون على ما ليس لهم.
-
خطر الشحّ على الإيمان والمجتمع
الشحّ ليس مجرد خلقٍ مذموم، بل هو مرض قلبي خطير، يُضعف الإيمان، ويقطع أواصر المحبة بين الناس، ويقود إلى الظلم والطغيان.
قال الله تعالى:{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9).
وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«اتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»
(رواه مسلم).فالشحّ إذا تغلغل في النفوس جرّها إلى سفك الدماء، واغتصاب الحقوق، وهدم الأخلاق، لأن الإنسان الشحيح لا يرى إلا نفسه ومصلحته، حتى لو كانت على حساب الآخرين.
-
الفرق بين الشحّ والبخل
ذكر العلماء فروقًا دقيقة بينهما، فقالوا:
- البخل: هو منع العطاء في موضع ينبغي فيه العطاء.
- الشحّ: هو البخل الشديد المصحوب بالحرص على جمع المال ومنع الحقوق، ولو بغير وجه حق.
وقد ورد في الحديث:
«لا يجتمع شحٌّ وإيمان في قلب رجل مسلم»
(رواه النسائي وصححه الألباني).أي أن الشحّ يتعارض مع الإيمان الحقيقي، لأن المؤمن يوقن أن الإنفاق في سبيل الله يزيد المال ولا ينقصه، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
- البخل: هو منع العطاء في موضع ينبغي فيه العطاء.
-
عاقبة البخل وفضل الإنفاق
قال تعالى:
{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة} (آل عمران: 180).
وفي المقابل، بشّر النبي ﷺ المنفقين فقال:
«ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً»
(متفق عليه).فالمنفق يُبارك الله له في رزقه، ويخلف عليه، أما البخيل فإن المال يكون وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.
-
صور الشحّ في واقعنا المعاصر
يُعد الشحّ اليوم من أخطر أمراض العصر، إذ تراه في صورٍ متعددة، منها:
- بخل الزوج على زوجته وأولاده رغم سعته.
- امتناع الأغنياء عن إخراج الزكاة أو الصدقة.
- احتكار السلع ورفع الأسعار طمعًا في الربح.
- الامتناع عن تقديم المساعدة لمن يحتاجها.
- البخل بالمشاعر والعلاقات الاجتماعية، فلا يُواسي أحدٌ أحدًا، ولا يُعطي أحدٌ من وقته أو علمه.
وهكذا يصبح الشحّ طابعًا عامًا للمجتمع، كما وصف النبي ﷺ:
«يتقارب الزمان ويُلقى الشحّ» — أي يُعمّ بين الناس حتى يصبح مألوفًا.
- بخل الزوج على زوجته وأولاده رغم سعته.
-
طرق الوقاية من داء الشحّ
يمكن للمسلم أن يُطهر نفسه من هذا الداء الخبيث بعدة وسائل، منها:
1. تقوية الإيمان بالله واليقين برزقه:
فكل من أيقن أن الله هو الرزاق زال عنه الخوف من الفقر.2. المداومة على الصدقة ولو بالقليل:
فإن النفقة تطهّر النفس، وتُنمّي روح الكرم والإحسان.3. تذكّر فناء المال وزوال الدنيا:
فلا يبقى من المال إلا ما أُنفق في سبيل الله.4. الإيثار على النفس:
قال تعالى في وصف المؤمنين:{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9).
5. الاقتداء بالنبي ﷺ:
فقد كان أجود الناس، لا يردّ سائلاً، ولا يدّخر شيئًا عن المحتاجين. -
خاتمة
إن الشحّ من أشدّ أمراض القلوب فتكًا، ومن علامات الساعة الصغرى التي تدل على فساد القيم وقرب نهاية الزمان.
والمؤمن الواعي هو الذي يتجنب هذا الداء، ويسعى إلى تطهير قلبه من الحرص والبخل، ويستبدله بالإحسان والكرم والرحمة.قال النبي ﷺ:
«يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك»
(رواه البخاري ومسلم).فما أعظم أن يعيش الإنسان كريم النفس، سخيّ اليد، نقيّ القلب، فينال وعد الله الصادق:
{ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.