حكم البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: أقوال المذاهب والأدلة الشرعية

تعرّف في هذا المقال الشامل على حكم البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وأقوال المذاهب الفقهية، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع، مع بيان صحة البيع عند وقوعه، وضوابط التعاملات التجارية عند الأذان الأول والثاني للجمعة.

حكم البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: أقوال المذاهب والأدلة الشرعية
حكم البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: أقوال المذاهب والأدلة الشرعية
  • مقدمة

    يُعدّ وقت النداء لصلاة الجمعة من الأوقات التي ترتبط بأحكام شرعية دقيقة تتعلق بوجوب السعي وترك ما يشغل عن الخطبة، وقد أولى الفقهاء هذا الباب عناية خاصة؛ لارتباطه بالسلوك الاقتصادي للمسلم في يوم الجمعة، وبما يُحقق التوازن بين الالتزام الشرعي ومتطلبات المعاملات المالية. ويهدف هذا المقال إلى تقديم معالجة تحليلية موسعة لحكم البيع وقت النداء، وفق منهج فقهي مقارن مدعّم بالأدلة، مع استحضار التطبيقات العملية لضبط هذا الحكم في البيئة التجارية المعاصرة.

  • تحديد الأذان المقصود بالنهي الشرعي

    اتفق جمهور العلماء على أن النهي المذكور في قوله تعالى:
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]
    لا يتعلق بالأذان الأول الذي استحدثه الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كثر الناس، كما ورد في حديث السائب بن يزيد:

    قال: "كان النداء يوم الجمعة أولُه إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء".

    ووجه الدلالة أن الأذان الذي كان على عهد النبي ﷺ هو الذي يتعلق به الحكم، أي النداء الواقع عند جلوس الإمام على المنبر (ويسمى اليوم: الأذان الثاني). وعليه:

    • الأذان الأول: لا يتعلق به نهي البيع.
    • الأذان الثاني: هو الذي يحرُم بعده البيع، لبدء وقت الوجوب بالسعي إلى الخطبة والصلاة.
  • حكم البيع بعد الأذان الأول

    1. مذهب الجمهور

    ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز البيع بعد الأذان الأول؛ لأنه غير داخل في النهي الشرعي، ولأن هذا النداء ليس المقصود بقول الله تعالى «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ».

    2. الأساس الفقهي

    • الأذان الأول تنظيم إداري مستحدث، وليس وقت الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة.
    • لم يثبت نهي صريح يتعلق به.

    التطبيق المعاصر

    تُعد هذه المساحة الزمنية فرصة تنظيمية للباعة، خصوصًا في الأسواق الكبرى، لإتمام تعاملاتهم دون الدخول في دائرة النهي الشرعي.

  • حكم البيع بعد الأذان الثاني (وقت صعود الإمام)

    1. حكم التحريم

    أجمع الفقهاء على تحريم البيع بعد الأذان الثاني؛ لأنه وقت وجوب السعي إلى الجمعة، ولأن الاشتغال بالبيع يفضي إلى ترك الواجب.

    الأدلة:

    (أ) من القرآن

    قوله تعالى:
    ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾
    – أمر بالسعي، ونهي عن البيع.
    – ورود الأمر والنهي في سياق واحد يفيد الجزم.

    (ب) الإجماع

    نقل الإجماع:

    • إسحاق بن راهويه
    • ابن رشد
    • ابن العربي
    • الطحطاوي

    (ج) التعليل

    بيع المسلم في هذا الوقت يؤدي إلى الإخلال بالواجب الشرعي، وهو السعي إلى الخطبة، وهذا التعليل يجعل الحكم منوطًا بما يشغل عن أداء الفريضة.

  • حكم صحة البيع إذا وقع بعد الأذان الثاني

    هنا وقع الخلاف الفقهي، إذ بالرغم من تحريم البيع، إلا أن الفقهاء اختلفوا في صحته أو بطلانه:

    1. القائلون بالصحة

    وهم: الحنفية والشافعية وقول للمالكية ورواية عند الحنابلة.

    أدلتهم:

    • النهي يتعلق بالوقت لا بعين العقد، فالنهي ليس لذات البيع بل لما يؤول إليه من ترك الواجب.
    • قياسًا على الصلاة في أرض مغصوبة: العمل صحيح مع الإثم.

    2. القائلون بالبطلان

    وهم: المالكية والحنابلة في المعتمد.

    وجه الاستدلال:

    • النهي وارد في زمن يوجب ترك البيع، فيكون العقد غير معتبر شرعًا لانعقاده في وقت محظور.

    الترجيح المعاصر

    تميل هيئات الفتوى الحديثة إلى أن البيع محرم ولكنه صحيح من حيث العقد، دفعًا للضرر المترتب على إبطال التعاملات، خاصة في البيئات التجارية الموسعة.

  • حكم بيع من لا تلزمهم صلاة الجمعة

    اتفق فقهاء المذاهب الأربعة أن البيع لا يحرم على من لا تجب عليه الجمعة، مثل:

    • النساء
    • المسافر
    • العبد
    • المريض

    أساس الحكم:

    • لأن الآية علّقت الحكم بمن وجب عليه السعي.
    • والتحريم مرتبط بالانشغال عن الجمعة، وهو غير متحقق في حقهم.
  • ضوابط عملية وتنظيمية في المعاملات يوم الجمعة

    1. للباعة

    • إغلاق المحلات قبل الأذان الثاني.
    • تنظيم العمليات المالية إلكترونيًا بحيث تسقط المعاملات تلقائيًا من النظام وقت الأذان الثاني.
    • جدولة أعمال التسويق والخدمات قبل الوقت الممنوع.

    2. للمؤسسات التجارية

    • تضمين سياسة الموارد البشرية بندًا يوجب التوقف الفوري عن العمل وقت الأذان الثاني.
    • توفير بيئة عمل تشجع الموظفين على الالتزام بالصلاة دون تأخير.

    3. للمستهلكين

    • التخطيط المسبق لقضاء الحاجيات قبل الأذان الثاني.
    • تجنب إبرام الصفقات عبر منصات إلكترونية وقت النداء الثاني.
  • الحكمة الاقتصادية والروحية من تحريم البيع عند النداء

    1. تعزيز الالتزام الجماعي

    التحريم يحقق توحيدًا زمنيًا للمجتمع نحو العبادة، فيرفع مستوى الروح الاجتماعية المشتركة.

    2. ضبط سلوك السوق

    منع التعاملات المالية في هذا الوقت يمنع الاستغلال التجاري ويقلل التشتت والازدحام.

    3. تأكيد أولوية القيم على الاقتصاد

    يعكس هذا الحكم توازن الشريعة بين متطلبات الاستثمار والالتزام الروحي.

  • خاتمة

    إن حكم البيع وقت النداء لصلاة الجمعة يمثل نموذجًا دقيقًا لتكامل التشريع الإسلامي بين الواجبات العبادية والسلوك الاقتصادي. وبالرغم من اختلاف الفقهاء في صحة البيع، إلا أن التحريم بعد النداء الثاني محل اتفاق، وهو محور الانضباط الشرعي في يوم الجمعة. وعلى المسلم المعاصر–سواء كان فردًا أو مؤسسة–أن يتعامل مع هذا الحكم برؤية منظمة، تحقق الامتثال الشرعي وتضمن في الوقت نفسه انسيابية الأعمال دون تعارض مع الفريضة.