الفرق بين قوله تعالى: (عينان تجريان) و(عينان نضاختان)
اكتشف الفرق الدقيق بين قوله تعالى: (عينان تجريان) و(عينان نضاختان) في سورة الرحمن، مع شرح معاني الآيتين وأقوال المفسرين، وبيان الفروق البلاغية والدلالات الإيمانية التي توضح مراتب النعيم في الجنة.

-
مقدمة
جاءت سورة الرحمن لتكشف للإنسان جانبًا من مشاهد النعيم الأخروي الذي أعدّه الله لعباده المتقين، بأسلوب بديع يجمع بين الجلال والجمال. ومن أبرز صور النعيم التي ذكرتها السورة الكريمة: العيون الجارية والنضاخة في الجنان الأربع. وهنا يبرز السؤال: ما الفرق بين قوله تعالى:
- ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ [الرحمن: 50]
- و**﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾** [الرحمن: 66]؟
هذا الاختلاف اللفظي ليس من باب الترادف أو التكرار، بل هو تنويع مقصود يكشف عن تفاوت الدرجات بين الجنان، ويبرز دقة التعبير القرآني وإعجازه البلاغي.
- ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ [الرحمن: 50]
-
سياق الآيات
ذكرت سورة الرحمن أربع جنان:
1. الجنتان الأوليان: لمن بلغوا أرقى درجات الخوف من الله ومراقبته. قال تعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].2. الجنتان الأخريان: لمن قصرت درجتهم عن الأولى، لكنهم من أهل الطاعة والإيمان. قال تعالى:
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 62].وقد جاء الوصف مختلفًا بين الجنتين الأوليين والأخريين؛ فالأوليان وُصفتا بالجريان، بينما الأخريان وُصفتا بالنضخ.
-
معنى (عينان تجريان)
الجريان يدل على سعة الماء واستمراريته وانسيابه. قال المفسرون:
- الجنتان الأوليان فيهما عينان عظيمتان تجريان في غير أخدود، أي تسيلان بلا حصر ولا حواجز.
- حصباء العينين الياقوت والزبرجد، وترابهما الكافور، وحافاتهما الزعفران.
- الجريان يوحي بالانتشار والاتساع، مما يناسب مقام الجنتين الأعلى.
إذن فـ"الجريان" رمز للسعة والدوام وتمام النعيم.
- الجنتان الأوليان فيهما عينان عظيمتان تجريان في غير أخدود، أي تسيلان بلا حصر ولا حواجز.
-
معنى (عينان نضاختان)
النضح في اللغة: الفوران والاندفاع. والنضاخة: العين التي تفور بالماء وتثور منه اندفاعًا متواصلًا.
- قال الرازي: "النضخ دون الجري"، أي أن مرتبة النضاخة أقل من الجريان.
- وقال البقاعي: "تفوران بشدة توجب رشاش الماء بحيث لا ينقطع ذلك، لكنهما لا يبلغان الجري" [نظم الدرر].
- وقال ابن القيم: "النضاخة هي الفوارة، والجارية السارحة أحسن منها؛ لأنها تجمع بين الفوران والجريان" [حادي الأرواح].
إذن فـ"النضاختان" تدلان على عينين فوارتين بالماء، أقل سعة من الجارية، لكنهما لا تنقطعان.
- قال الرازي: "النضخ دون الجري"، أي أن مرتبة النضاخة أقل من الجريان.
-
الفروق البلاغية بين (تجريان) و(نضاختان)
1. مرتبة النعيم: الجريان أعلى من النضخ، لذا جاءت الجنتان الأوليان أعلى رتبة من الأخريين.
2. سعة الماء: الجري يدل على الانسياب الواسع، أما النضح فيدل على التدفق المحدود في مساحات أصغر.
3. التعبير الفني: اختيار كلمة "تجريان" يعطي صورة حركة الماء بانسياب وهدوء، أما "نضاختان" فتصوّر الماء وهو يثور ويتفجر.
4. التناسب مع السياق: وصف الجنتين الأوليين بالغنى والتنوع (ذواتا أفنان، من كل فاكهة زوجان، فرش بطائنها من إستبرق)، فجاء وصف العيون بالجريان. بينما الجنتان الأخريان وُصفتا بالبساطة (مدهامتان، فاكهة ونخل ورمان، رفرف خضر وعبقري حسان)، فجاء وصف العيون بالنضخ.
-
أقوال المفسرين
- الطبري: العينان الجاريتان تسقيان أهل الجنة أنهارًا عظيمة بلا انقطاع.
- الرازي: النضخ أقل من الجريان، إشارة إلى تفاوت النعيم.
- البقاعي: النضخ يوحي بالفوران والرشاش، لكنه لا يبلغ الجري المستمر.
- ابن القيم: الجارية أفضل من النضاخة؛ لأنها تضمن الجمع بين الجريان والفوران.
- الطبري: العينان الجاريتان تسقيان أهل الجنة أنهارًا عظيمة بلا انقطاع.
-
دلالات تربوية وإيمانية
1. مراتب الخوف من الله: تفاوت الجنان يذكّر بأن الخوف من الله درجات، وكلما زاد مقام العبد ارتقى في النعيم.
2. دقة التعبير القرآني: كلمة واحدة تغيّر المشهد بكامله، لتبيّن الفرق بين النعيمين.
3. رحمة الله الواسعة: حتى من لم يبلغ المرتبة العليا، له نصيب من الجنان والنعيم.
4. الحث على العمل: التفريق بين الجريان والنضخ دعوة للارتقاء بالطاعة، للفوز بالدرجات العلى.
-
خاتمة
إن الفرق بين قوله تعالى: ﴿عينان تجريان﴾ و**﴿عينان نضاختان﴾** ليس مجرد اختلاف لغوي، بل هو بيان بديع لتفاوت مراتب النعيم في الجنة، تبعًا لتفاوت مراتب أهلها في الخوف من الله والعمل بطاعته. فالجريان يدل على السعة والدوام، بينما النضخ يدل على الفوران والانبعاث، وهو دون الجريان في الدرجة.
وهكذا يظل القرآن الكريم يكشف لنا عن أسرار البلاغة والإعجاز، داعيًا المؤمن إلى أن يسعى لبلوغ المراتب العليا حيث الجنان التي تجري فيها العيون الجارية، لا مجرد النضاخة.