الفرق بين {نَزَّل} و {أَنْزَل} في القرآن الكريم

"تعرف على الفرق بين {نَزَّل} و{أَنْزَل} في القرآن الكريم من منظور لغوي وبلاغي وتفسيري، مع عرض آراء العلماء كابن عاشور والزمخشري والآلوسي، وتوضيح الحكمة من استعمال كل فعل. مقالة شاملة تبرز أسرار البلاغة القرآنية."

الفرق بين {نَزَّل} و {أَنْزَل} في القرآن الكريم
الفرق بين {نَزَّل} و {أَنْزَل} في القرآن الكريم
  • مقدمة

    يتميز القرآن الكريم بدقة ألفاظه وإحكام تراكيبه، بحيث لا يأتي لفظ مكان آخر إلا لحكمة بالغة. ومن بين الألفاظ التي توقف عندها علماء التفسير واللغة: الفعلان {نَزَّل} و {أَنْزَل}، واللذان وردا في مواضع متعددة من القرآن، وأحيانًا اجتمعا في آية واحدة، مما أثار التساؤل حول ما إذا كان بينهما فرق معنوي دقيق، أم أنهما مجرد تنويع بلاغي لا يغيّر المعنى.

    وقد تناول هذه المسألة كبار المفسرين واللغويين، كالزمخشري والرازي والآلوسي وابن عاشور وغيرهم، كما ناقشها علماء اللغة مثل ابن منظور في لسان العرب، وأبو حيان في البحر المحيط. والبحث في هذه المسألة يكشف لنا عن جانب من أسرار البلاغة القرآنية ودقة التعبير الإلهي.

  • المعنى اللغوي للفعلين

    • أَنْزَلَ: فعل على وزن أَفْعَلَ، وهو من الأفعال المزيدة بالهمزة، وتفيد في أصلها التعدية، أي أن الله تعالى جعل الشيء ينزل.
    • نَزَّلَ: فعل على وزن فَعَّلَ، وهو من صيغ التكثير والمبالغة في اللغة العربية، وقد يدل على التدرج أو التكرار أو التقوية.

    قال ابن منظور في لسان العرب: "تنزَّله وأنزله ونزَّله بمعنى واحد"، لكنه أشار إلى أن بعض العلماء فرّقوا بينهما، معتبرين أن صيغة فعَّل تفيد التكثير والتدريج، بخلاف أفعل.

  • الاستعمال القرآني للفعلين

    ورد الفعلان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويمكن تقسيمها إلى صور مختلفة:

    1.    ورود {نَزَّل} وحدها: مثل قوله تعالى:
    {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (آل عمران: 3).

    2.    ورود {أَنْزَل} وحدها: مثل قوله تعالى:
    {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (الكهف: 1).

    3.    اجتماعهما في آية واحدة: مثل قوله تعالى:
    {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (آل عمران: 3).

    وهذا التنويع أثار نقاشات طويلة بين المفسرين.

  • آراء العلماء في الفرق بين {نَزَّل} و {أَنْزَل}

    1- الرأي الأول: الفرق بين التدريج والجملة

    ذهب الزمخشري والرازي وغيرهما إلى أن:

    • {نَزَّل} تدل على النزول المتدرج شيئًا فشيئًا.
    • {أَنْزَل} تدل على النزول جملة واحدة.

    وعلى هذا الأساس فسّروا قوله تعالى:
    {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)، أي أن القرآن أُنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نُزّل منجّمًا على النبي ﷺ خلال ثلاث وعشرين سنة.

    وهذا التفسير ينسجم مع طبيعة نزول القرآن المتقطع، بخلاف التوراة والإنجيل اللذين نزلا جملة واحدة على أنبيائهما.

    2- الرأي الثاني: قوة الفعل بالتضعيف

    ذهب ابن عاشور إلى أن التضعيف في {نَزَّل} يفيد تقوية المعنى وتعظيم الحدث، بخلاف {أَنْزَل}.
    فالعدول من {أَنْزَل} إلى {نَزَّل} في شأن القرآن الكريم فيه إشارة إلى عظم مكانته وهيمنته على سائر الكتب السماوية، كما قال تعالى:
    {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48).

    3- الرأي الثالث: القرآن له نزولان

    ذكر الآلوسي أن القرآن يتميز عن غيره من الكتب السماوية بكونه له نزولان:

    1.   نزول جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا.

    2.   نزول مفرقًا على النبي ﷺ.

    ومن هنا جاء استعمال الفعلين معًا: {نَزَّل} و {أَنْزَل} في حق القرآن، بخلاف التوراة والإنجيل اللذين لم يكن لهما إلا نزول واحد.

    4- الرأي الرابع: لا فرق بينهما

    ذهب أبو حيان الأندلسي إلى أن الفعلين مترادفان، والتغاير بينهما إنما هو تنويع في التعبير فقط، مثلما تتنوع الأساليب البلاغية في القرآن من غير أن تحمل دلالة مغايرة.

  • مناقشة الآراء

    • من خلال تتبع الاستعمال القرآني يظهر أن القول بوجود فروق دقيقة بين {نَزَّل} و{أَنْزَل} أرجح من القول بترادفهما التام.
    • الجمع بين الفعلين في مواضع محدودة مثل (آل عمران: 3) يؤكد أن لكل صيغة دلالة خاصة، ولو كانا مترادفين تمامًا لما احتيج إلى هذا التنويع.
    • ومع ذلك، قد تأتي إحدى الصيغتين أحيانًا بمعنى الأخرى إذا لم تجتمعا في النص، كما أشار بعض العلماء: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
  • الأثر البلاغي

    الفروق بين {نَزَّل} و{أَنْزَل} ليست مجرد فروق لغوية دقيقة، بل تحمل دلالات بلاغية، منها:

    • إبراز شرف القرآن الكريم بذكر إنزاله بصيغ متعددة.
    • الإشارة إلى تدرج التشريع وحكمة نزول القرآن منجّمًا، لمواكبة الأحداث وتربية النفوس.
    • المقابلة بين القرآن والكتب السابقة لبيان اختلاف الطريقة، وبالتالي اختلاف الأثر.
  • الخاتمة

    يتبين لنا أن القرآن الكريم حين يختار بين {نَزَّل} و {أَنْزَل} فإنه لا يختار عبثًا، بل وراء ذلك دلالات بلاغية ولغوية دقيقة. وقد اجتهد العلماء في تفسير هذه الفروق: فمنهم من رأى أن {نَزَّل} للتدرج و{أَنْزَل} للجملة، ومنهم من اعتبر {نَزَّل} أقوى وأعظم دلالة، ومنهم من قال إن القرآن له نزولان بخلاف غيره.

    وفي النهاية، تبقى هذه الاجتهادات شاهدة على عمق النص القرآني وغزارة معانيه، وتظل الحكمة العليا هي أن نزول القرآن جاء بالحق والهدى ليكون حجة على الناس أجمعين.