حكم الإشهاد على الطلاق والرجعة في الفقه الإسلامي
تعرف في هذا المقال على حكم الإشهاد على الطلاق والرجعة في الإسلام، مع استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم، والخلاف بين القول بالوجوب والندب، وآثاره الشرعية والاجتماعية، ورأي الفقه المعاصر في توثيق الطلاق لحماية الأسرة.

-
مقدمة
الطلاق من المسائل الشرعية الدقيقة التي أولى الإسلام لها عناية كبيرة، لما يترتب عليها من آثار اجتماعية ونفسية وشرعية بالغة. ومن بين القضايا المهمة المرتبطة بالطلاق: مسألة الإشهاد على الطلاق والرجعة، وهل هو واجب أم مستحب، وما يترتب على إغفاله من أحكام فقهية. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة بين قائل بالوجوب وقائل بالندب، ولكل فريق أدلته ومناقشاته. وفي هذه المقالة المطوّلة نستعرض بتفصيل أقوال العلماء وأدلتهم، مع مناقشة المسألة في ضوء النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة الإسلامية.
-
حكم الإشهاد على الطلاق والرجعة في ضوء القرآن والسنة
ورد الأمر بالإشهاد في قوله تعالى:
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2].
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالإشهاد هنا الطلاق، وذهب آخرون إلى أن المراد الرجعة، ولا مانع من حمل الآية على الأمرين معاً، فيكون المقصود أن يشهد الزوج على طلاقه وعلى رجعته.
كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود (2188) عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال فيمن طلّق ولم يشهد:
"طلّقت لغير سنّة، وراجعت لغير سنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد".
وهذا النص صريح في أن الإشهاد سنة مؤكدة، وأن تركه يُعد مخالفة للهدي النبوي.
-
الرأي الأول: الإشهاد سنة مستحبة لا واجب
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وظاهر مذهب الظاهرية والزيدية والإباضية إلى أن الإشهاد على الطلاق والرجعة ليس واجباً بل هو مندوب إليه.
أدلة هذا الرأي:
1. الكتاب الكريم: الأمر بالإشهاد في الآية السابقة محمول على الندب والإرشاد، قياساً على قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282]، حيث اتفق العلماء على أن الإشهاد في البيع ليس شرطاً في الصحة وإنما مستحب.
قال القرطبي: "الإشهاد على الطلاق والرجعة مندوب إليه، لا واجب".
وقال ابن عبد البر: "هو ندب وإرشاد واحتياط للمطلق".2. القياس على البيع: فكما أن البيع يصح بلا إشهاد، فكذلك الطلاق.
3. الإجماع المنقول: فقد حكى الشوكاني في "نيل الأوطار" إجماع العلماء على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق.
مناقشة هذا الرأي:
أُخذ على هذا الاستدلال أن القياس على البيع غير مسلم، لأن الطلاق ليس عقد معاوضة، بل هو متعلق بالفروج، والأصل في الفروج الاحتياط والتشديد. ولهذا رأى بعض العلماء أن الأمر بالإشهاد أقوى من مجرد الندب.
-
الرأي الثاني: الإشهاد واجب وشرط لصحة الطلاق
ذهبت الإمامية وبعض المعاصرين، وكذلك مفهوم كلام بعض الظاهرية، إلى أن الإشهاد واجب على الطلاق والرجعة، وأن الطلاق بدون إشهاد لا يقع أصلاً.
أدلة هذا الرأي:
1. النص القرآني: قوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ هو أمر، والأصل في الأمر الوجوب ما لم تصرفه قرينة. ولا قرينة هنا تصرفه، بل القرائن تؤكد الوجوب، لأن الإشهاد يرفع الإنكار ويحفظ الحقوق.
2. الحديث: أثر عمران بن حصين رضي الله عنه، حيث وصف الطلاق بلا إشهاد بأنه "طلاق بدعة".
3. القياس على النكاح: فكما أن النكاح لا ينعقد إلا بشاهدين، فكذلك الطلاق، إذ ليس الإنهاء أولى من البدء.
ترجيحات بعض العلماء المعاصرين:
- قال الشيخ أحمد محمد شاكر: الطلاق بدون إشهاد باطل، لأن الزوج تعدى حد الله.
- وقال الشيخ محمد الغزالي: الشاهدان ركن في العقد والطلاق والرجعة جميعاً، وهو ما يحمي الأسرة من الانهيار.
- وذهب د. محمد بلتاتجي إلى أن تغير الظروف وتوسع المجتمعات يجعل القول بوجوب الإشهاد أقرب إلى مقاصد الشريعة.
- قال الشيخ أحمد محمد شاكر: الطلاق بدون إشهاد باطل، لأن الزوج تعدى حد الله.
-
مناقشة سبب الخلاف
السبب الرئيس في اختلاف الفقهاء يعود إلى تفسير الأمر القرآني "وأشهدوا":
- فمن رأى أنه للوجوب اعتبر الطلاق بلا إشهاد غير واقع.
- ومن رآه للندب اعتبر الإشهاد مستحباً فقط.
الآثار المترتبة على الخلاف
1. عند الجمهور: الطلاق يقع بلا إشهاد، لكنه خلاف السنة.
2. عند القائلين بالوجوب: الطلاق بلا إشهاد غير واقع أصلاً، ويُعد طلاقاً بدعياً.
- فمن رأى أنه للوجوب اعتبر الطلاق بلا إشهاد غير واقع.
-
الرأي الراجح والمصلحة المعاصرة
يرى بعض الباحثين المعاصرين أن القول بوجوب الإشهاد أليق بزماننا، حيث كثر الجحود والإنكار، وضعف الوازع الديني، وتفككت الأسر بسبب الطلاق السريع. وهذا يتفق مع مقاصد الشريعة في تضييق دائرة الطلاق، وحماية الأسر من الانهيار.
وقد ذهب د. عبد الحليم منصور إلى أن المصلحة الراجحة اليوم تقتضي تقنين وجوب الإشهاد، بل وتوثيق الطلاق عند المأذون بحضور الشهود، حمايةً للحقوق وصوناً للبيوت.
وهذا شبيه بما فعله سيدنا عمر رضي الله عنه حين أمضى طلاق الثلاث بلفظ واحد حمايةً للأسرة من العبث بالطلاق.
-
هل الطلاق يقع ديانة إذا لم يُشْهَد عليه؟
الجواب من حيث الديانة (أي بين العبد وربه):
· جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يرون أن الطلاق يقع ديانةً بمجرد صدور لفظه من الزوج، سواء أُشهِد عليه أم لا، لأن الإشهاد عندهم مستحب وليس شرطًا. وبالتالي فالزوج بينه وبين الله مسؤول عن هذا الطلاق، ويُعتبر واقعًا شرعًا حتى إن لم يوثّقه أو يُشهد عليه.
· أما من قال بوجوب الإشهاد كالشيعة الإمامية وبعض المعاصرين، فيرون أن الطلاق لا يقع أصلاً إلا بحضور الشاهدين، وبالتالي فلو طلّق بلا إشهاد لا يُعتَبر طلاقًا لا قضاءً ولا ديانةً، لأنه خالف أمر الله في قوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ [الطلاق:2].
الترجيح العملي:
- الذي استقر عليه عمل الأمة، وأفتت به دور الإفتاء والمحاكم الشرعية، أن الطلاق يقع ديانةً وقضاءً بمجرد صدوره من الزوج حتى لو لم يُشهِد، لكنه يكون طلاقًا غير سني (أي بدعي من حيث الصفة).
- أما الإشهاد فهو سنة مؤكدة، ومقصوده رفع الجحود والنزاع، وحفظ الحقوق، لا أنه شرط صحة للطلاق.
إذن:
- ديانةً عند الجمهور: الطلاق يقع بمجرد التلفظ ولو بلا إشهاد.
- ديانةً عند القائلين بالوجوب: لا يقع أصلاً إلا بشهود.
- الذي استقر عليه عمل الأمة، وأفتت به دور الإفتاء والمحاكم الشرعية، أن الطلاق يقع ديانةً وقضاءً بمجرد صدوره من الزوج حتى لو لم يُشهِد، لكنه يكون طلاقًا غير سني (أي بدعي من حيث الصفة).
-
خاتمة
مسألة الإشهاد على الطلاق والرجعة من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، بين قائل بالوجوب وقائل بالندب. غير أن المصلحة الشرعية المعاصرة تدعو إلى تبني القول بوجوب الإشهاد، حمايةً للأسرة وصوناً للمجتمع من التفكك. وقد أشار كثير من العلماء المعاصرين إلى أن ذلك ينسجم مع مقاصد الشريعة في تضييق دائرة الطلاق، وحفظ الحقوق، ومنع الإنكار.
والراجح أن الإشهاد سنة مؤكدة عند الجمهور، وواجب عند بعض الفقهاء والمعاصرين، ولا شك أن الأخذ به اليوم ضرورة ملحة تحفظ الأسر من الانهيار وتحقق مقاصد الشرع في الاستقرار الأسري.