حق المطلقة في السكن: الأحكام والأدلة الشرعية وآراء الفقهاء بالتفصيل

مقالة موسعة عن حق المطلقة في السكن وفق الفقه الإسلامي، مع الأدلة من القرآن والسنة، وأقوال المذاهب الأربعة، وبيان حكم المطلقة الرجعية والبائن وسكن الحاضنة، لتحصيل فهم دقيق وشامل.

حق المطلقة في السكن: الأحكام والأدلة الشرعية وآراء الفقهاء بالتفصيل
حق المطلقة في السكن: الأحكام والأدلة الشرعية وآراء الفقهاء بالتفصيل
  • مقدمة

    تمثّل سكنى المطلقة إحدى أهم المسائل المتعلّقة بأحكام الطلاق؛ إذ ترتبط ارتباطًا مباشرًا بكرامة المرأة، وحفظ حقوقها، واستقرار الأسرة بعد وقوع الانفصال. وقد أولى الفقهاء هذه القضية عناية كبيرة، فبحثوا أنواع الطلاق، وما يترتّب على كل نوع منه من أحكام السكنى والنفقة، واستندوا في ذلك إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وإجماع الأمة وأقوال الأئمة الأربعة.

    وتقدّم هذه الدراسة عرضًا تفصيليًا موثقًا لموقف الشريعة من حق المطلقة بالسكنى، مع تحليل الفوارق بين المطلقة الرجعية والبائن، وبيان الآثار المترتبة على الحمل، ومواضع العدة، والخلافات الفقهية الدقيقة، وصولًا إلى ترجيح مدعوم بالأدلة.

  • السكنى للمطلقة في ضوء القرآن الكريم

    1) آية السكنى في سورة الطلاق

    قال الله تعالى:
    ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق: 1]

    هذه الآية أصلٌ عامّ في حكم سكنى المطلقة، ودلالتها عند جمهور العلماء تتناول حالة الطلاق الرجعي تحديدًا؛ لأنها لا تزال زوجة في عدّتها.

    2) آية نفقة الحامل

    قال الله تعالى:
    ﴿وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: 6]

    دلّت هذه الآية على وجوب النفقة للحامل، والنفقة تشمل السكنى؛ لأنها جزء من مؤن الزوجية الواجبة.

  • أحكام السكنى حسب نوع الطلاق

    1) المطلقة طلاقًا رجعيًا

    • لها السكنى بالإجماع.
    • ولها النفقة أيضًا بالإجماع.
    • تبقى في بيت الزوجية طوال مدّة العدّة.
    • لا يجوز إخراجها، ولا يجوز لها الخروج إلا لعذر معتبر.

    الدليل:

    قوله تعالى:
    ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق: 1]

    أقوال العلماء:

    • قال ابن قدامة في المغني: “أجمع العلماء على أن الرجعية لها السكنى والنفقة”.
    • ونقله النووي في المجموع.

     هذا الحكم قطعي لا خلاف فيه.

    2) المطلقة طلاقًا بائنًا وهي حامل

    • لها السكنى والنفقة بالإجماع.
    • وذلك استنادًا إلى آية النفقة في سورة الطلاق.

    الدليل:

    قال تعالى:
    ﴿وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: 6]

    التعليل الفقهي:

    • النفقة واجبة لها، والسكنى من تمام النفقة.
    • ثبت بالإجماع أن الحامل المطلقة بائنًا لها النفقة.

     الحكم ثابت لا نزاع فيه.

    3) المطلقة طلاقًا بائنًا وهي غير حامل

    هذه هي أكثر المسائل خلافًا.

    أ) القول الأول: لا سكنى لها ولا نفقة

    • مذهب الشافعية.
    • والحنابلة في الرواية الراجحة.
    • واختيار ابن تيمية، وابن القيم، وابن المنذر.

    الدليل الصريح: حديث فاطمة بنت قيس

    قالت فاطمة رضي الله عنها:
    «طلقني زوجي ثلاثًا، فلم يجعل لي رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى»
    رواه مسلم (1480)

    سبب القوة في هذا القول:

    • نص صريح صحيح لا معارض له.
    • يدل على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها ولا سكنى.

     هذا هو القول الراجح عند المحققين.

    ب) القول الثاني: لها السكنى دون النفقة

    • مذهب المالكية.
    • ورواية عن الحنابلة.
    • وقول لبعض الحنفية.

    مستندهم:

    الاستدلال بعموم قوله تعالى:
    ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم﴾ [الطلاق: 6]
    ويقولون إن سبب نزول الحديث في فاطمة كان له خصوصية.

    المناقشة:

    • جمهور المحققين ردّوا هذا القول؛ لأن حديث فاطمة صحيح وصريح.

    ج) القول الثالث: لها السكنى والنفقة

    • قول عند بعض الحنفية.
    • وهو ضعيف وغير معتمد.
  • أين تعتد المطلقة؟

    1) الرجعية

    • تعتد في بيت الزوجية وجوبًا.
    • خروجها أو إخراجها محرم.

    2) البائن الحامل

    • تعتد في بيت الزوج عند الجمهور؛ لأن لها السكنى والنفقة.

    3) البائن غير الحامل

    • على القول الراجح (لا سكنى لها):
      • تعتد حيث شاءت ولا تُلزم بيت الزوج.
  • السكنى في حال وجود ضرر أو أذى

    قد يمنع الزوج أو أهله المطلقة من حقوقها، أو يتسببون في أذى لها، أو يكون البيت مشتركًا ويثير النزاع.

    الحكم الشرعي:

    • يجوز لها الخروج إذا تضررت.
    • والزوج مُلزَم شرعًا بتوفير سكن مناسب يرفع عنها الضرر.

    الدليل:

    قال النبي ﷺ:
    «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه (2340)

  • السكنى في حال كانت الزوجة بلا مأوى

    إذا كانت المطلقة لا تجد مكانًا تقيم فيه، فإن:

    • المطلقة الرجعية: حقها ثابت بلا نقاش.
    • المطلقة الحامل: حقها ثابت.
    • المطلقة البائن غير الحامل:
      • تُعطى سكنًا إن خشيت على نفسها أو أولادها.
      • لأن حفظ النفس مقصد شرعي قطعي.
  • خاتمة

    إن أحكام السكنى للمطلقة تمثل منظومة دقيقة في الفقه الإسلامي تهدف إلى صون كرامة المرأة وحماية الأسرة بعد وقوع الطلاق. وقد جاءت النصوص القرآنية والسنن الصحيحة لتضع إطارًا واضحًا لهذه الحقوق، مع اختلاف يسير بين الفقهاء في بعض الحالات الخاصة، ولا سيما حالة المطلقة البائن غير الحامل. والأقرب إلى مقاصد الشرع وأدلته الصحيحة هو القول بعدم وجوب السكنى لها، إلا إذا ترتب على خروجها ضرر أو فقدت المأوى، وهنا تتدخل القواعد الكلية الشرعية لحماية الإنسان ورفع الضرر.