الفرق بين قوله تعالى: "تجري من تحتها الأنهار" و"تجري تحتها الأنهار"

اكتشف الفرق بين قوله تعالى: تجري من تحتها الأنهار وتجري تحتها الأنهار، مع بيان المعاني البلاغية وأقوال المفسرين، وسبب اختلاف التعبير القرآني بين المواضع. مقال شامل يوضح دقة البيان القرآني وعظمته.

الفرق بين قوله تعالى: "تجري من تحتها الأنهار" و"تجري تحتها الأنهار"
الفرق بين قوله تعالى: "تجري من تحتها الأنهار" و"تجري تحتها الأنهار
  • مقدمة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    من المواضع البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى استعمل تعبيرين متشابهين في وصف جنات النعيم:

    • "تجري من تحتها الأنهار"
    • "تجري تحتها الأنهار"

    وهذا الاختلاف اللفظي ليس من باب الترادف العشوائي، بل هو تنويع بديع له دلالات بيانية وفقهية عميقة، سنحاول بيانها فيما يلي.

  • مواضع ورود العبارتين في القرآن الكريم

    ·        جاء التعبير "تجري من تحتها الأنهار" في معظم الآيات التي تصف الجنة، مثل قوله تعالى:

    {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25].

    ·        أما التعبير "تجري تحتها الأنهار" فقد ورد مرة واحدة فقط في سورة التوبة، قال الله تعالى:

    {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100].

  • الفرق من الناحية البيانية

    1.    إضافة (من):

    o       (من) هنا تفيد ابتداء الغاية أو تكون زائدة للتوكيد.

    o       فقول الله تعالى: "تجري من تحتها الأنهار" يوحي بأن الأنهار تنبع من داخل الجنة وتتفجر عيونها من أرضها، وهو أدل على الدوام والاستمرار.

    o       أما قوله: "تجري تحتها الأنهار" بدون (من)، فيفيد أن الأنهار قد تأتي من مصدر آخر بعيد ثم تمر من تحت الجنان.

    2.    المعنى في سورة التوبة:

    o       الآية تتحدث عن الصفوة من أصحاب النبي ﷺ: السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

    o       فجاء التعبير "تجري تحتها الأنهار" ليشمل النعمة في صورتين:

    §        أنهار تنبع من داخل الجنة.

    §        وأنهار تأتيها من خارجها.

    o       وفي قراءة ابن كثير: "من تحتها"، أي أن القراءتين معاً تدلان على كمال النعيم لهم.

    3.    التوكيد:

    جمهور المفسرين – كابن عاشور – يرون أن حذف (من) في سورة التوبة لم ينقص من قوة المعنى، لأن الجملة قد كُفِيَت بالتوكيد من خلال تقديم المسند إليه (أعد لهم)، مما دل على أن ما أُعِدّ لهم هو أكمل وأتم

  • إشارات المفسرين

    • ابن عاشور: يرى أن (من) إذا دخلت على الظروف فهي لزيادة التوكيد، وحذفها في سورة التوبة لحصول التوكيد بغيرها.
    • الزمخشري: يرى أن (من) هنا تفيد ابتداء الغاية، وكأن الأنهار متفجرة من أعماق الجنان.
    • د. حسام النعيمي: يربط بين القراءتين، ويبين أن اجتماع "تحتها" و"من تحتها" في شأن جنان الصحابة دلالة على خصوصيتهم، إذ يجتمع لهم النعيمان: نبع الأنهار من داخلها، وجريانها إليها من خارجها.
  • الحكمة البيانية

    • التعبير القرآني يراعي سياق الآية ومقامها:
      • في وصف عام للمؤمنين، يقال: "تجري من تحتها الأنهار"، لإفادة الاطمئنان الدائم أن الماء ينبع من ذات الجنة، فلا يخشى انقطاعه.
      • أما في مقام الحديث عن السابقين الأولين من الصحابة، فقد جاء التعبير "تجري تحتها الأنهار"، وبه جمع بين الوجهين (مع اختلاف القراءتين)، ليكون جزاؤهم أوسع وأشمل.
  • البعد الإيماني

    إن تأمل هذه الفروق يفتح أمام المؤمن أبواباً من اليقين والطمأنينة:

    • فالمؤمن يطمئن أن نعيم الجنة مستمر لا ينقطع، لأنه ينبع من داخلها.
    • ويشعر أن الله تعالى يكرم كل فئة بما يليق بها، فجعل لجنان السابقين الأولين زيادة في الوصف وتماماً في النعيم.
  • الخلاصة

    الفرق بين قوله تعالى "تجري من تحتها الأنهار" وقوله "تجري تحتها الأنهار" فرق بياني دقيق:

    • الأول يدل على أن الأنهار متفجرة من داخل الجنة نفسها (أقوى وأدوم).
    • الثاني يدل على شمول النعيم بين نبع داخلي وجريان خارجي.
    • وحذف (من) في سورة التوبة مقصود بلاغياً، ليغني عنه توكيد السياق.

    وهكذا يظل القرآن الكريم معجزاً في كل حرف، فسبحان من هذا كلامه، وصدق الله العظيم إذ قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].