حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة وألفاظه عند الأئمة الأربعة

تعرف على حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة وهل هو واجب أم سنة؟ مع بيان الصيغ الصحيحة عند الأئمة الأربعة، وأفضل ما ورد عن النبي ﷺ من أدعية الاستفتاح في الفرض والنفل، وشرح معانيها وأوقاتها وأهم فوائدها في تحقيق الخشوع والطمأنينة في الصلاة.

حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة وألفاظه عند الأئمة الأربعة
حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة وألفاظه عند الأئمة الأربعة
  • مقدمة

    مقدمة
    دعاء الاستفتاح في الصلاة

    تُعدّ الصلاة الركن الأعظم بعد الشهادتين، وهي عماد الدين وأول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة. وقد شرع الله فيها أقوالًا وأفعالًا مخصوصة تُؤدى على وجهٍ تعبديٍّ خالص، منها ما هو واجب لا تصح الصلاة بدونه، ومنها ما هو سنةٌ ومستحبّ يكمّلها ويزيدها خشوعًا وكمالًا.
    ومن هذه السنن التي يكثر السؤال عنها دعاء الاستفتاح، وهو الدعاء الذي يقوله المصلّي بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة.
    ورغم شيوع القول باستحبابه، إلا أن بعض أهل العلم – قديمًا وحديثًا – تكلّموا في دلالات النصوص الواردة فيه، مما يجعل هذا الموضوع من المسائل الدقيقة في فقه الصلاة.

  • تعريف دعاء الاستفتاح

    الاستفتاح لغةً: من الفتح، أي الابتداء.
    واصطلاحًا: هو الدعاء الذي يُستفتح به الصلاة بعد التكبيرة الأولى وقبل الشروع في القراءة، سواء كان ثناءً على الله تعالى أو توبةً واستغفارًا أو تمجيدًا وتسبيحًا.

    وقد ثبتت في السنة عدة صيغ للاستفتاح، مما يدل على تنوّع المشروع فيه، وأنه سنة قولية فعلها النبي ﷺ في أكثر صلواته.

  • أدلة مشروعية دعاء الاستفتاح

    وردت عدة أحاديث صحيحة في السنة النبوية تثبت مشروعية هذا الدعاء، منها:

    ·        حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
    «كان رسول الله ﷺ إذا كبّر في الصلاة سكت هُنيّةً قبل القراءة، فقلتُ: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال:
    (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد)»
    رواه البخاري ومسلم.

    ·        وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا قام إلى الصلاة قال:
    «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين»
    رواه مسلم.

    فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي ﷺ كان يداوم على الاستفتاح بأنواع من الأذكار، مما يثبت سنيته.

  • حكم دعاء الاستفتاح بين الوجوب والاستحباب

    القول الأول: أنه سنة مستحبة

    وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، ورواية عن الإمام أحمد، وقول أكثر المحققين من السلف والخلف.
    استدلوا على ذلك بما يلي:

    1.   أن النبي ﷺ لم يأمر أصحابه به أمر إيجاب، بل فعله بنفسه وسأله الصحابة عنه بعد أن لاحظوا سكوته قبل القراءة، فبيّن لهم ما يقول، فدل على أنه ليس واجبًا.

    2.   لو كان ركنًا من أركان الصلاة لعلّمه النبي ﷺ للمسيء في صلاته، لأنه ذكر له أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها، ولم يذكر الاستفتاح.

    3.   إجماع العلماء على صحة الصلاة بدون دعاء الاستفتاح، إذ لم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بإعادتها إذا تُرك.

    قال ابن حزم في المحلّى:

    "وإنما لم نذكره فرضًا لأنه فعلٌ منه ﷺ، ولم يُؤمر به، فكان الائتساء به حسنًا".

    كما قال الإمام النووي في شرح مسلم:

    "أجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة في أول ركعة قبل الفاتحة".

    القول الثاني: أنه واجب أو قريب من الوجوب

    وهذا القول مرويّ عن الإمام أحمد في رواية، واختاره بعض المحققين كابن بطة والصنعاني والألباني – رحمهم الله – بناءً على ظاهر الحديث الذي ورد في شأن المسيء صلاته، حيث قال النبي ﷺ:
    «ثم كبّر فكبّر الله، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» وفي رواية: «حتى يحمد الله ويثني عليه».

    واستدل هؤلاء بأن لفظ الأمر ظاهر في الوجوب، والقاعدة الأصولية تقول: الأمر يفيد الوجوب ما لم يأت صارف.

    لكن الجمهور أجابوا بأن هذا الحديث لا يدل على دعاء الاستفتاح بعينه، بل المقصود به الثناء أثناء القراءة، أو الحمد الوارد في الفاتحة، لأن النبي ﷺ لم يبيّن نصًا محددًا للاستفتاح فيه.

  • ما الصارف من الوجوب إلى الاستحباب؟

    إذا كان الأصل في الأوامر الشرعية الوجوب، فما الذي صرفها إلى الاستحباب هنا؟
    ذكر العلماء عدة علل وأوجه لذلك:

    1.   عدم المداومة في التعليم: لم يثبت أن النبي ﷺ علّمه للمسيء صلاته أو أمر به أمر إلزام.

    2.   تنوّع الألفاظ: فالتنوع في صيغ الاستفتاح يدل على أن المقصود به التوسّع لا الوجوب، لأن الواجب لا يُؤدى بعدة صيغ.

    3.   إجماع الصحابة والتابعين على عدم الإعادة بتركه، كما قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن من ترك دعاء الاستفتاح فصلاته صحيحة".

    4.   وروده في مقام البيان لا في مقام الإلزام، والأصل في الأذكار النبوية أنها مستحبة إلا ما ورد النص بوجوبه.

  • الفرق بين الحمد والثناء الوارد في حديث المسيء ودعاء الاستفتاح

    ذهب بعض أهل العلم إلى أن الثناء والحمد المذكور في حديث المسيء ليس هو دعاء الاستفتاح المعروف، بل هو داخل في القراءة نفسها، أي في سورة الفاتحة التي تبدأ بالحمد والثناء على الله.
    وعليه، فالحمد والثناء الواجب هو ما في الفاتحة، أما دعاء الاستفتاح فهو مستحبّ زائد على ذلك.

    قال الحافظ ابن حجر في الفتح:

    "إن المراد بقوله في الحديث (ثم يحمد الله ويثني عليه) قراءة الفاتحة، لأن فيها الحمد والثناء".

  • صيغ دعاء الاستفتاح عند الأئمة الأربعة

    اتفق العلماء على مشروعية دعاء الاستفتاح، واختلفوا في ألفاظه المفضّلة، وفيما يلي بيان ذلك:

    مذهب الحنفية:

    يُستحب أن يقول:

    سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
    وقيل: يجمع بين هذه وبين قوله ﷺ: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين.
    والجمع بينهما أولى لمن أراد مزيد الأجر.

    مذهب المالكية:

    يرون أن دعاء الاستفتاح مستحب في النفل، ومكروه في الفرض عند المشهور من المذهب.
    وصيغته المشهورة عندهم:

    سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين.

    مذهب الشافعية:

    يستحب أن يقول:

    وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين.
    ثم يزيد عليه:
    اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

    مذهب الحنابلة:

    يستحب عندهم أن يقول:

    سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
    ويجوز أن يستفتح بالأدعية الأخرى الواردة عن النبي ﷺ، لأن تنويع الاستفتاح سنة عندهم.

  • فوائد دعاء الاستفتاح

    1.   تهيئة القلب للخشوع قبل الدخول في القراءة.

    2.   استحضار العبودية بين يدي الله بالتوبة والتنزيه.

    3.   زيادة الثواب باتباع السنة القولية.

    4.   فتح باب القرب من الله بالثناء عليه قبل طلب الحاجة.

    5.   جمع معاني التوحيد والتنزيه والاستغفار في بداية المناجاة.

  • متى يُقال دعاء الاستفتاح؟

    يُقال بعد تكبيرة الإحرام مباشرة، وقبل الشروع في قراءة الفاتحة، ويكون في الركعة الأولى فقط، سواء في صلاة الفرض أو النفل.
    أما في الركعات التالية، فيُشرع البدء بالاستعاذة والبسملة دون استفتاح جديد.

  • هل يتركه الإمام أو المأموم؟

    • الإمام والمأموم والمنفرد كلّهم يستحب لهم الاستفتاح.
    • إذا خشي المأموم أن تفوته قراءة الفاتحة خلف الإمام، فيترك الاستفتاح ويبدأ بالفاتحة مباشرة، لأن قراءة الفاتحة أولى.
  • الخلاصة الراجحة

    بعد استقراء النصوص وأقوال الأئمة، يتبيّن أن:

    • دعاء الاستفتاح سنة مؤكدة عن النبي ﷺ، وليس بواجب، وصلاة من تركه صحيحة بالإجماع.
    • القول بوجوبه قولٌ ضعيف غير معتمد في المذاهب الأربعة.
    • الثناء والحمد في حديث المسيء لا يراد به دعاء الاستفتاح، بل قراءة الفاتحة.
    • من داوم عليه نال الأجر وازداد خشوعًا، ومن تركه فصلاته صحيحة لكنها ناقصة الأجر والكمال.
  • الخاتمة

    إن دعاء الاستفتاح من السنن التي تُظهر أدب العبودية والتهيؤ للوقوف بين يدي الله تعالى. فهو بمثابة بابٍ يُطرق قبل الدخول إلى الحضرة الإلهية في الصلاة.
    والمؤمن الحريص على الاقتداء برسول الله ﷺ لا يفرّط في هذه السنة العظيمة، فهي مفتاح الخشوع، ومدخل الطمأنينة، وزينة الصلاة الباطنة.

    قال ابن القيم رحمه الله:

    "كان ﷺ إذا قام إلى الصلاة، استفتحها بذكر الله والثناء عليه، ليتهيأ قلبه لمناجاته".