قصة هاروت وماروت: بين الرواية القرآنية والتفسير الصحيح

تعرف على القصة الكاملة لهاروت وماروت كما وردت في سورة البقرة، مع سرد قصصي مشوق وتحليل تفسيري موسع يوضح حقيقة السحر، دور اليهود، موقف الإسلام من الإسرائيليات، والدروس المستفادة من الابتلاء.

قصة هاروت وماروت: بين الرواية القرآنية والتفسير الصحيح
قصة هاروت وماروت
  • بداية الحكاية

    في قديم الزمان، وفي أرضٍ عُرفت بسحرها وفتنها، أرض بابل التي تقع اليوم في العراق، شاء الله أن يمتحن الناس ابتلاءً عظيماً.

    كانت الشياطين قد روّجت بين بني إسرائيل أن نبي الله سليمان عليه السلام لم يكن نبيًّا بل ساحرًا، وأنه حكم بالجن والريح والطير بفضل سحره لا بفضل وحي الله. وتناقل الناس هذه الفرية حتى صاروا يعتقدون أن السحر هو سرّ الملك والسلطان.

    لكن الحقيقة أن سليمان عليه السلام كان نبيًّا من أنبياء الله، طاهرًا بريئًا مما نسبوه إليه. فقد قال الله بوضوح:
    ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾.

  • نزول الملكين هاروت وماروت

    في ذلك الجو المليء بالفتن والادعاءات، أرسل الله ملكين كريمين من السماء هما: هاروت وماروت.

    نزلا إلى بابل، ولم يُرسلا ليضلّا الناس أو يغوياهم، بل جاءا كابتلاء واختبار. فقد علّما الناس السحر، لكنهما كانا لا يبدآن أحدًا بتعليم حتى يصرّحا له قائلين:
    "
    إنما نحن فتنة فلا تكفر".

    أي: نحن ابتلاء من الله، ومن يتعلم منا السحر ثم يستخدمه فقد كفر.

  • الناس والفتنة بالسحر

    كان الناس يقتربون من الملكين، يتساءلون عن أسرار هذا العلم الغامض، فيسمعون منهما التحذير أولًا. لكن بعضهم كان يُصرّ ويأبى إلا أن يتعلم، فيكشفان له حقيقة السحر، فيخرج وقد حمل علماً لا يجلب له إلا الشر.

    يستخدمه بعضهم للتفريق بين الأزواج، لزرع البغضاء بين القلوب، أو لإيقاع الضرر. ومع ذلك، لم يكن للسحر أي تأثير إلا إذا شاء الله وقدّر.

  • نهاية المفرّطين

    راح الناس يلهثون وراء هذا العلم الخبيث، يظنون أنهم يمتلكون به مفاتيح السيطرة، لكنهم لم يدركوا أنهم يبيعون آخرتهم بثمن بخس.

    قال الله تعالى:
    ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

    وهكذا، بقيت قصة هاروت وماروت درسًا خالدًا: أن الله يبتلي عباده ليظهر المخلص من المفتون، وأن السحر شرّ محض لا ينفع صاحبه في الدنيا ولا الآخرة.

  • تفسير وتحليل قصة هاروت وماروت

    1. براءة سليمان عليه السلام

    أول ما أكدت عليه الآية هو تبرئة نبي الله سليمان من السحر، إذ قال تعالى:
    ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾.
    فالأنبياء معصومون من الكفر والمعاصي المخلّة بمقام النبوة، لكن اليهود والشياطين اتهموه زورًا.

    2. حقيقة نزول هاروت وماروت

    • جاء الملكان ابتلاءً لا عقوبة.
    • لم يعلما أحدًا إلا بعد تحذيره.
    • لم يُرسلا لنشر السحر، بل ليميز الله من يستجيب للتحذير ومن يتبع الهوى.

    3. موقف الإسلام من الروايات الإسرائيلية

    كثرت قصص إسرائيلية باطلة تزعم أن هاروت وماروت وقعا في معصية بسبب امرأة فاتنة، وأن الله عاقبهما.
    لكن العلماء ردوا ذلك مؤكدين أن الملائكة معصومون من الفاحشة والمعاصي.
    قال ابن كثير: "هذه كلها من الإسرائيليات التي لا تصح نسبتها للأنبياء ولا الملائكة".

    4. السحر في ضوء القرآن

    • السحر حقيقة لا خيال، وله أثر في التفريق بين الزوجين وفي الإضرار بالناس.
    • لكنه لا يعمل إلا بإذن الله: أي بمشيئته القدرية.
    • تعلّم السحر كفرٌ صريح لأنه يتضمن الاستعانة بالشياطين ومخالفة شرع الله.

    5. أقوال المفسرين

    • الطبري: أوضح أن الشياطين وضعوا كتبًا في السحر وزعموا أنها من عند سليمان، فنسبوا له الكفر.
    • ابن كثير: أكد أن الملكين ابتلاء، وكانا يحذّران الناس من الكفر.
    • القرطبي: بيّن أن الآية دليل على أن السحر له حقيقة، لكنه لا يغني عن القدر.
    • السعدي: شدّد على أن تعليم الملكين للسحر كان مقرونًا بالنصح، حتى لا تكون للناس حجة.

    6. الدروس المستفادة

    1.   الفتنة سنة إلهية: ليتميز المؤمن المخلص من المنافق.

    2.   السحر طريق إلى الكفر: ولا يجوز تعلمه أو العمل به.

    3.   براءة الأنبياء والملائكة من السحر والمعصية.

    4.   إثبات القدر: فلا يحدث ضرر إلا بإذن الله.

    5.   خطورة الإسرائيليات: فهي تسيء للأنبياء والملائكة، ويجب ردّها.

    6.   التحذير من اتباع الباطل: فقد فضّل اليهود السحر على علم الأنبياء.

  • قصة هاروت وماروت في الروايات الإسرائيلية

     تقول الرواية:
    إن الملَكين هاروت وماروت نزلا إلى الأرض، وكانا يقضيان بين الناس بالعدل، ويعرجان في المساء إلى السماء بكلمات يذكرانها.
    فابتلاهما الله بامرأة حسناء من أجمل نساء الأرض، ألقيت في قلبيهما الشهوة، فأخّرا أمرها مرارًا حتى وعدتهما بميعاد.

    ولما جاء الموعد قالت لهما: "علّموني الكلمة التي تعرجان بها إلى السماء".
    فعلّماها الكلمة، فلما نطقت بها ارتفعت إلى السماء، فمسخها الله كما ترون (أي صارت كوكبًا أو نجمة كما جاء في بعض الروايات).

    ثم لما أمسيا تكلما بالكلمة التي كانا يعرجان بها فلم يعرجا.
    فبعث الله إليهما أن يختارا بين عذاب الدنيا إلى قيام الساعة أو عذاب الآخرة.
    فاختارا عذاب الدنيا، فهما يُعذَّبان في بابل إلى أن تقوم الساعة.

     هذه الرواية من الإسرائيليات، وقد حكم عليها العلماء بأنها باطلة ومردودة للأسباب التالية:

    1.   تتعارض مع عصمة الملائكة، فالملائكة لا يقعون في الفاحشة ولا في المعاصي.

    2.   لا أصل لها في القرآن ولا السنة الصحيحة.

    3.   هي من أخبار بني إسرائيل التي تسربت إلى بعض كتب التفسير.

    ولهذا قال العلماء: الواجب على المسلم أن يكتفي بما جاء في القرآن: أن هاروت وماروت كانا فتنة وابتلاء، يعلمان الناس السحر مع التحذير منه، وليس فيهما شيء من المعصية أو السقوط في الفتنة.

  • ماذا فعل هاروت وماروت في مدينة بابل

     بحسب ما ورد في القرآن الكريم:
    الله تعالى قال:

    "وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ..." [البقرة: 102].

    إذن عمل هاروت وماروت في بابل لم يكن ممارسة السحر، ولا تعليم الناس إياه على سبيل الإغواء، وإنما:

    ما فعله هاروت وماروت ببابل:

    1.    كانا يعلّمان الناس حقيقة السحر: يبيّنان لهم أنه موجود، وأن له أثرًا بإذن الله، لكن مع التحذير الشديد بأن تعلمه أو ممارسته كفر ومعصية عظيمة.

    o       كانوا يقولون دائمًا: "إنما نحن فتنة فلا تكفر" أي نحن اختبار من الله، فلا تجعلوا ما عندنا وسيلة للكفر.

    2.    كانا ابتلاءً واختبارًا: الله أنزلهما ليختبر بني إسرائيل والناس في بابل، هل ينصاعون للتحذير فيتركون السحر، أم يتبعون الشياطين ويغترون بتعليم السحر.

    3.    إظهار الحق من الباطل: بعض المفسرين (كالطبري وابن كثير) ذكروا أن الحكمة من نزولهما هي كشف حقيقة السحر للناس، حتى لا يلتبس عليهم الأمر بين السحر والمعجزة أو بين السحر والكرامة.

    4.    التحذير المستمر: لم يعلّما أحدًا إلا بعد أن يُشهدا عليه بالتحذير: "إنما نحن فتنة فلا تكفر". فمن أصرّ وتعلم، كان ذلك عناده واختياره.

     الخلاصة:
    هاروت وماروت ببابل كانا بمثابة مدرستين للتحذير؛ يعلّمان الناس حقيقة السحر مع التنبيه أنه فتنة وكفر، ولم يكونا داعيين إلى السحر ولا واقعين في معصية. بل كانا تنفيذًا لأمر الله واختبارًا لعباده.

  • خاتمة

    قصة هاروت وماروت في سورة البقرة ليست مجرد حكاية، بل هي درس إيماني عميق. إنها تكشف عن:

    • براءة الأنبياء من تهمة السحر.
    • حقيقة السحر وكونه فتنة.
    • أن الابتلاء سُنة ماضية ليظهر الصادق من الكاذب.
    • أن كل ضرر لا يقع إلا بإذن الله.

    وبهذا، تظل القصة منارة للمؤمنين، تُحذّرهم من السحر وتُذكّرهم أن من يبيعه إنما يبيع آخرته، ولبئس ما باع.