الإمالة في رواية حفص عن عاصم
تعرف في هذا المقال على الإمالة في رواية حفص عن عاصم، معناها لغة واصطلاحًا، وأنواعها الكبرى والصغرى، وسبب إمالة كلمة {مَجْرَاهَا} في سورة هود دون غيرها، مع توضيح أثر الإمالة على نطق الراء، وبيان آراء العلماء والقراء فيها.

-
مقدمة
علامة الإمالة في المصحف تُعَدّ الإمالة من الأحكام الصوتية الدقيقة في علم التجويد، وهي من الخصائص اللغوية التي تميزت بها بعض القراءات القرآنية دون غيرها. ورغم أن الإمالة تُعَدّ ظاهرة صوتية منتشرة في عدد من روايات القراء، فإن رواية حفص عن عاصم اشتهرت بالفتح في جميع مواضع القرآن الكريم، ولم يرد فيها الإمالة إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى في سورة هود:
{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41].
وفي هذا الموضع تحديدًا، أمال حفص الألف في كلمة {مَجْرَاهَا} إمالةً كبرى، وهي الإمالة الوحيدة في روايته، ولذلك اعتبرها العلماء من الأحكام الخاصة والنادرة في رواية حفص.
-
معنى الإمالة لغةً واصطلاحًا
تعريف الإمالة الإمالة لغةً: من الفعل "أمالَ"، أي جعل الشيء مائلاً عن استقامته.
واصطلاحًا: هي ميل الفتحة نحو الكسرة، وميل الألف نحو الياء، أي النطق بالألف الممالة بين الألف والياء الصحيحتين، بحيث لا تُلفظ ألفًا خالصة ولا ياءً خالصة، وإنما صوتًا وسطًا بينهما.الإمالة ليست من الظواهر الدخيلة، بل هي من خصائص اللغة العربية الأصيلة، عرفتها بعض القبائل في الجاهلية، وكانت شائعة في لهجات تميم وقيس وأسد، بينما اشتهرت قريش بالفتح دون الإمالة.
-
الإمالة في رواية حفص عن عاصم
أجمع علماء القراءات على أن حفصًا عن عاصم لم يمل في قراءته إلا موضعًا واحدًا في قوله تعالى:
{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41].
فأمال الألف في كلمة {مَجْرَاهَا}، فيقال: "مَجْرِيهَا" بإمالة كبرى، ويلزم من هذه الإمالة ترقيق الراء، لأن تفخيمها لا يناسب ميل الألف إلى الياء.
وهكذا، يُنطَق الحرف على هيئة بين الألف والياء، فيخرج صوتها رقيقًا مستساغًا، دون مبالغة أو تكلف.أما باقي ألفات القرآن في رواية حفص فهي على الأصل بالفتح، ولذلك عُدَّت الإمالة من الظواهر المفردة أو النادرة في روايته.
-
أنواع الإمالة عند القراء
قسّم العلماء الإمالة إلى نوعين رئيسيين:
1. الإمالة الكبرى
هي ميل الألف نحو الياء ميلًا تامًا، حتى يصبح الصوت بينهما بالتساوي، أي بنسبة (50% ألف + 50% ياء).
وهذه هي الإمالة التي وردت في رواية حفص في كلمة {مَجْرَاهَا}.2. الإمالة الصغرى
هي ميل الألف نحو الياء ميلًا خفيفًا، بحيث تبقى الغلبة للألف، ويكون الصوت أقرب للألف منه إلى الياء (نحو 70% ألف و30% ياء).
وهذا النوع موجود في روايات أخرى مثل ورش عن نافع، وأبي عمرو البصري، والكسائي، وحمزة، وغيرهم. -
أثر الإمالة على نطق الراء
كيفية أداء الإمااة قبل الإمالة تُقرأ الكلمة: "مَجْرَاهَا" بتفخيم الراء لأنها مفتوحة، والراء المفتوحة تُفخَّم دائمًا.
أما بعد الإمالة، فإن الراء تُرقَّق لأن الألف مالت نحو الياء، فأصبح الصوت بين الألف والياء، فزالت مناسبة التفخيم.
لذا يُقال بالنطق الصحيح: "مَجْرِيهَا" (راء مرققة غير مفخمة).
وهذا الترقيق لازم للإمالة الكبرى في هذا الموضع، وهو من دقائق الأداء الصوتي التي يلاحظها أهل التلقي والقراءة. -
الأصل اللهجي للإمالة
تعود ظاهرة الإمالة إلى لهجات القبائل العربية القديمة. فقد كانت بعض القبائل تميل الألفات ميلاً خفيفًا أو شديدًا بحسب طبيعة نطقها.
فمثلاً:- قبائل تميم وقيس وأسد: اشتهرت بالإمالة في كلامها.
- قريش (قوم النبي ﷺ): اشتهرت بالفتح وعدم الإمالة.
ولأن القرآن نزل على سبعة أحرف تشمل لهجات العرب جميعًا، فقد ضمّ في قراءاته الفتح والإمالة معًا، توثيقًا لاختلاف النطق في ألسنة القبائل.
ومن هنا، جاءت رواية حفص جامعة بين الأصل الحجازي (الفتح) وبين أثر من آثار الإمالة في كلمة واحدة، ليبقى هذا التنوع شاهدًا على فصاحة القرآن الكريم وتعدد أوجه قراءاته المتواترة. - قبائل تميم وقيس وأسد: اشتهرت بالإمالة في كلامها.
-
سبب إمالة "مَجْرَاهَا" دون غيرها
بيّن العلماء أن كلمة {مَجْرَاهَا} أُميلت لأنها جاءت على وزنٍ صوتيٍّ خاص يجتمع فيه سبب الإمالة وهو وجود الألف بعد راء مكسورة (في الأصل اللغوي)، فناسب ميل الألف نحو الياء تخفيفًا للنطق.
كما أن هذه الكلمة رويت بالإمالة عن عاصم بواسطة حفص، بسند متصل إلى النبي ﷺ، فهي إمالة متواترة وليست اجتهادًا أو تكلّفًا في النطق.
وقد نقل حفص عن عاصم، عن عبدالله بن حبيب السلمي، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله ﷺ أنه قرأها بهذه الإمالة، في قوله:"وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها"
-
أقوال العلماء في أصل الإمالة
اختلف العلماء في أيهما الأصل: الفتح أم الإمالة، على قولين:
1. القول الأول: الفتح أصل والإمالة فرع.
قالوا: لأن الفتح هو اللغة الأشهر والأقرب إلى الأصل في نطق العرب، وهو لغة قريش، كما أن كل ممال يمكن تفخيمه، ولا يمكن إمالة كل مفخم.2. القول الثاني: الإمالة أصل والفتح فرع.
واحتج أصحاب هذا الرأي بأن الإمالة كانت وسيلة لتخفيف المجهود العضلي في النطق، فهي مظهر من مظاهر التسهيل الصوتي الذي اتجهت إليه بعض اللهجات العربية.غير أن الرأي الراجح أن كلاهما أصل في موطنه، فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة أهل نجد وشرق الجزيرة، وقد جمع القرآن بين اللغتين لتثبيت تنوع العرب في نطقه، دون ترجيح إحداهما على الأخرى.
-
موقف حفص من ظاهرة الإمالة
رواية حفص تميل إلى لغة الحجاز التي يغلب عليها الفتح، ولذلك اقتصرت الإمالة عنده على موضع واحد.
ويرى بعض الباحثين أن هذا يعود إلى سلسلة الإسناد في القراءة؛ فحفص أخذ عن عاصم، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكلهم من أهل الحجاز الذين لم يشتهروا بالإمالة، بخلاف غيرهم من القراء الكوفيين الذين أخذوا عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وهما من قبائل تميم وأسد المشهورتين بالإمالة.لذلك جاءت قراءة حفص مميزة بالفتح، مع بقاء أثر يسير للإمالة في موضع واحد، توثيقًا لاختلاف اللهجات وتنوع الأداء القرآني.
-
الخلاصة
- الإمالة في رواية حفص حكم مفرد ونادر لا يوجد إلا في كلمة واحدة هي {مَجْرَاهَا} في سورة هود.
- نوعها إمالة كبرى، ويلزم منها ترقيق الراء.
- أصل الإمالة لهجي عربي قديم، استعملته بعض القبائل، بينما التزمت قريش بالفتح.
- جمع القرآن بين الفتح والإمالة ضمن قراءاته المختلفة، إقرارًا لتعدد لهجات العرب.
- رواية حفص تمثل المدرسة الحجازية في الفتح، مع احتفاظها بأثر الإمالة الكبرى في موضع واحد، توثيقًا لأصالة اللغة العربية وتنوعها الفطري.
- الإمالة في رواية حفص حكم مفرد ونادر لا يوجد إلا في كلمة واحدة هي {مَجْرَاهَا} في سورة هود.
-
الخاتمة
إن الإمالة في رواية حفص عن عاصم تمثل نموذجًا فريدًا للتنوع الصوتي في القراءات القرآنية، وتكشف عن عمق العلاقة بين اللهجات العربية القديمة والقراءات المتواترة.
فهي ليست مجرد ميل في الصوت، بل رمز دقيق لتعدد الأداء القرآني، وحكمة إلهية في بقاء جميع أوجه النطق المسموعة عن النبي ﷺ، بما يثبت أن القرآن نزل بلسان العرب جميعًا، جامعًا بين لغاتهم على اختلافها.