صِيامُ التَّطوُّعِ وَالقَضاءِ: أَحكامٌ فِقهيَّةٌ بَيْنَ الأدلَّةِ وَالاجتِهاداتِ
صيام التطوع والقضاء من العبادات التي تتعلق بذمة المسلم، خاصة بعد انقضاء شهر رمضان المبارك. اختلف الفقهاء في ترتيب هاتين العبادتين: هل يُشرع صيام التطوع قبل قضاء ما فات من رمضان؟ وما حكم الجمع بين نية القضاء والتطوع؟ هذا المقال يستعرض آراء المذاهب الفقهية وأدلتها، مع بيان الراجح في المسألة، ويرتبط بذلك مناقشة أحكام التشريك بين العبادات وضوابطه.

-
أولاً: حكم صيام التطوع قبل القضاء
اختلف العلماء في جواز صيام النوافل قبل قضاء ما فات من رمضان إلى ثلاثة أقوال رئيسة:
1. قول الجمهور (الحنفية، المالكية، الشافعية): الجواز مع تفصيل
- الحنفية: يرون الجواز "بلا كراهة"، استنادًا إلى أن القضاء ليس واجبًا على الفور، لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة: 185)، دون تقييد بالتتابع أو الاتصال برمضان.
- المالكية والشافعية: يجيزون الصيام لكن مع الكراهة، خوفًا من تأخير القضاء أو التهاون في أداء الواجب.
2. قول الحنابلة: المنع وعدم صحة الصيام
استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ» (رواه أحمد). لكن هذا الحديث "ضعيف" لوجود ابن لهيعة في سنده، والاضطراب في متنه، كما نبه عليه ابن أبي حاتم وغيره.
٣. الراجح في المسألة:
الراجح هو قول الجمهور لقوة أدلتهم، خاصة مع تصريح القرآن بالتوسعة في القضاء، وحديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ» (متفق عليه). وهذا يدل على جواز التأخير ما دام الوقت متسعًا.
-
ثانيًا: صيام ستة أيام من شوال وعلاقتها بالقضاء
تعد ستة أيام من شوال من أشهر صيام التطوع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» (رواه مسلم). لكن اختلف الفقهاء في شروط تحصيل هذا الأجر:
1. المالكية: كراهة الصيام بهيئات معينة
كره الإمام مالك صيامها إذا اتصلت برمضان مباشرة أو صامها الشخص متتابعة، خشية أن يظن العامة أنها جزء من رمضان، كما ذكر في "الموطأ". وهذا التحفظ "مشروط" بوجود مقتدى به (كالعالم) أو اعتقاد الناس أنها سنة متصلة برمضان.
2. الجمهور: الجواز مع استحباب المبادرة
أجازوا صيامها قبل القضاء، لأن الحديث علق الأجر على صيام رمضان كاملًا (أداءً أو قضاءً) ثم إتباعه بست من شوال، فمن صامها بنية الأجر مع نيته القضاء لاحقًا يتحقق له الفضل.
-
ثالثًا: الجمع بين نية القضاء والتطوع (مسألة التشريك)
ل يصح الجمع بين صيام القضاء والتطوع بنية واحدة؟ اختلف الفقهاء هنا بناءً على قاعدة "التشريك بين العبادات":
1. المذاهب الفقهية في المسألة:
- الحنابلة والشافعية: لا يصح التشريك، لأن كل عبادة مقصودة لذاتها.
- الحنفية: يصح إذا اتحد السبب (كصوم يوم عاشوراء مع القضاء).
- المالكية: التفصيل؛ إن كان التشريك في الوسائل (كالاغتسال للجمعة والجنابة) جاز، أما في المقاصد فلا.
وعليه: لا يصح عند المالكية الجمع بين نية القضاء (الواجب) والتطوع (النفل) في صيام يوم واحد؛ لأن كلًّا منهما عبادة مقصودة لذاتها، ولا تندرج إحداهما تحت الأخرى
2. الترجيح
الأحوط هو تعيين النية؛ فمن أراد القضاء نواه منفردًا، ومن أراد التطوع فعل ذلك في أيام أخرى، لضمان براءة الذمة وتحقيق المقصود من كل عبادة.
-
رابعًا: ضوابط وأحكام متعلقة بالقضاء والتطوع
. تقديم القضاء على التطوع: الأولى للمسلم المبادرة بقضاء رمضان؛ لأن الواجب مقدم على التطوع، لكن إن خشي فوات فضل التطوع (كستة شوال) جاز تقديمه.
2. صيام الأيام الفاضلة: كيوم عرفة أو عاشوراء، يُشرع صيامها حتى مع وجود قضاء، لأن فضلها مؤقت.
3. نية القضاء في صيام التطوع: لو نوى القضاء أثناء صيامه تطوعًا، فالصحيح عند الجمهور أنه يجزئه عن القضاء، لكنه يفوت فضل التطوع.
-
خامسًا: فتاوى معاصرة وتوصيات عملية متعلقة بالتطوع والقضاء
- فتوى المجمع الفقهي الإسلامي: جواز صيام ستة شوال قبل القضاء إذا اتسع الوقت، مع استحباب المبادرة بالقضاء.
- توجيهات للعاملين: من يشق عليه الجمع بين القضاء والتطوع بسبب العمل، فليقدم القضاء في أيام الراحة، ويصوم النوافل في الأوقات الخفيفة.
- دور العلماء في التوعية: تنبيه العامة إلى أن صيام شوال ليس جزءًا من رمضان، لئلا يقعوا في البدعة.
-
الخاتمة
مسألة صيام التطوع قبل القضاء تعكس سعة الشريعة ومراعاتها للظروف، والأصل فيها الجواز مع مراعاة الأولويات. وعلى المسلم أن يوازن بين إبراء ذمته من الواجبات وتحصيل فضائل النوافل، مسترشدًا بأدلة الشرع وفهم السلف. والأحوط له أن يستشير أهل العلم في حال التباس الأمر عليه، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).