ما معنى شيخ العقل عند الدروز؟ النشأة والتاريخ والدور الديني والاجتماعي

من هو شيخ العقل عند الدروز؟ تعرف على معنى مشيخة العقل في العقيدة الدرزية، تاريخ نشأتها في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، وأهم أدوار شيخ العقل الدينية والاجتماعية والرمزية في حياة الموحدين الدروز. مقالة موسوعية متكاملة تشرح بوضوح مكانة شيخ العقل ووظائفه الروحية.

  • مقدمة

    يُعدّ لقب شيخ العقل من أبرز المناصب الدينية في طائفة الموحدين الدروز، وهو منصب يحمل في طيّاته أبعادًا روحية واجتماعية وسياسية. ومع أن مفهوم “مشيخة العقل” يبدو في ظاهره رأسًا للهرم الديني، إلا أن حقيقته أكثر عمقًا واتساعًا؛ إذ يجمع بين المرجعية الدينية والإشراف الاجتماعي والحفاظ على التوازن الداخلي للطائفة.
    تاريخ هذا المنصب يعكس تطور البنية التنظيمية عند الدروز منذ نشأتهم قبل نحو ألف عام، مرورًا بفترات الحكم العثماني والانتداب، وصولًا إلى الأنظمة الحديثة في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن.

  • معنى “العقل” في العقيدة الدرزية

    لفهم “شيخ العقل”، لا بد من فهم موقع “العقل” في الفكر الديني الدرزي.
    فالعقل عند الدروز ليس مجرّد أداة للفهم، بل هو الجوهر الأول الذي صدر عنه الوجود، كما يورد الشيخ عبد الغفار تقي الدين في كتاب مناقب الدروز في العقيدة والتاريخ، حيث يقول: «لقد جعل الله للوجود علّة وسبباً يتنزّه به عن المباشَرة لإبداع الكائنات بذاته، وهذه العلة هي العقل».

    ويُبيّن شيخ العقل السابق في لبنان، الشيخ نعيم حسن، في كتابه الدليل إلى التوحيد أن العقل عند الدروز هو “النور الذي يقود الإنسان إلى معرفة الشرع الحق”، وهو الذي يوجّه المؤمن نحو الصواب.
    ومن هذا المنطلق سُمّي المتدينون الواعون لأمر الله بـ“العُقّال”، أي الذين أدركوا جوهر التوحيد وساروا في طريقه، مقابل “الجهّال” الذين لم يبلغوا هذا المقام الروحي بعد.

  • تقسيم المجتمع الدرزي: العُقّال والجهّال

    يُقسَّم المجتمع الدرزي إلى فئتين أساسيتين:

    1.    العُقّال (جمع عاقل): وهم النخبة الدينية الذين سمح لهم بالاطلاع على أسرار العقيدة، بعد اجتيازهم مراحل طويلة من التزكية الروحية والسلوك الأخلاقي.

    o       ينقسم العُقّال إلى ثلاث مراتب:

    §        خاصة الخاصة: وهم صفوة الشيوخ المطلعين على أسرار المذهب العليا.

    §        الخاصة: من تدرجوا في مراتب العلم والتهذيب لكن لم يبلغوا أعلى المقامات.

    §        أهل التحصيل: وهم من يسلكون طريق التعلم والتزكية تمهيدًا للترقي.

    o       يُعرف العاقل بلباسه المميز: العمامة البيضاء والعباءة الداكنة، وتُطلق اللحية كعلامة زهد وتقوى.

    2.    الجهّال: وهم عامة الناس الذين لا يُسمح لهم بالاطلاع على أسرار الدين، ويُرشدهم العُقّال إلى الفضائل والسلوك القويم.

    o       يشمل التقسيم النساء أيضًا، فهناك “العاقلات” المتدينات، و**“الجاهلات”** اللاتي لا يُسمح لهن بالاطلاع على كتب العقيدة.

    o       تُعرف المرأة العاقلة بثوبها الطويل الأبيض والنقاب، وتُكرَّم لما تُظهره من تقوى وورع.

  • أصل نشوء منصب “شيخ العقل”

    ظهرت فكرة “مشيخة العقل” في جبل لبنان خلال القرن الثامن عشر في ظل الحكم العثماني، حين كانت القرى الدرزية تضم مرجعيات دينية محلية تُشرف على شؤون الأوقاف والتعليم والإرشاد.
    ومع مرور الوقت، برزت الحاجة إلى مرجعية مركزية عليا تنظّم هذه الشؤون وتنسّق بين شيوخ القرى، فظهر لقب “شيخ العقل” ليشير إلى المرجع الأعلى لشؤون العُقّال والدين.

    يشير المؤرخ اللبناني سعيد أبو زكي في كتابه مشيخة عقل الدروز في لبنان: بحث في أصولها ومعناها وتطورها إلى أن هذا المنصب كان في البداية ذا طابع إداري ديني، يُعنى بإدارة الأوقاف ومتابعة الأحوال الشخصية، قبل أن يتطور إلى موقع رمزي ذي نفوذ اجتماعي واسع.

  • الفرق بين مشيخة العقل والرئاسة الروحية

    في القرن التاسع عشر، تميّزت مشيخة العقل عن “الرئاسة الروحية” لدى الدروز. فالأولى تعنى بإدارة الشؤون التنظيمية للطائفة، بينما الرئاسة الروحية تُعدّ مرتبة أعلى من حيث المقام الديني، وتكون غالبًا بيد شيوخ من المرتبة الأولى من العُقّال.
    هذا الفصل جاء لحماية الولاية الدينية من التأثيرات السياسية التي بدأت تظهر مع ضعف الحكم الدرزي في جبل لبنان بعد عام 1825، ومحاولة الأمراء الشهابيين التدخل في شؤون الطائفة.

  • مشيخة العقل في الدول المختلفة

    مشيخة العقل في لبنان

    يُعدّ لبنان اليوم الدولة الوحيدة التي يُنظَّم فيها منصب “شيخ العقل” قانونيًا. فقد نصّ قانون عام 2006 على أن للطائفة الدرزية شيخ عقل واحد، يتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها رؤساء الطوائف الدينية الأخرى.
    ويتولى شيخ العقل في لبنان مهامًا دينية واجتماعية واسعة تشمل:

    • الإشراف على الأوقاف والمؤسسات الدينية.
    • تمثيل الطائفة رسميًا أمام الدولة وسائر الطوائف.
    • الإشراف على المحاكم المذهبية الدرزية.
    • تعيين هيئة دينية استشارية من ستة شيوخ لمعاونته في مهامه.

    وكان المنصب يُشغل سابقًا من قبل شيخين يمثلان الفئتين السياسيتين: الجنبلاطية واليَزبكية، إلى أن توحّد المنصب رسميًا.
    ويشغل المنصب اليوم الشيخ الدكتور سامي أبو المنى، الذي خَلَف الشيخ نعيم حسن عام 2021، ويُعتبر من أبرز الشخصيات الدينية والفكرية الدرزية المعاصرة.

    مشيخة العقل في سوريا

    أما في سوريا، فقد ظهرت الحاجة إلى مشيخة العقل بعد استقرار الدروز في جبل العرب (جبل حوران) قبل نحو ثلاثة قرون.
    وتأسست أول رئاسة روحية للطائفة هناك على يد الشيخ إبراهيم الهجري في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، واتخذت بلدة قنوات مركزًا لها.
    وبعد وفاته، تعاقبت ثلاث عائلات على المنصب هي:

    • آل الهجري (في قنوات والريف الشمالي)،
    • آل جربوع (في مدينة السويداء)،
    • آل حناوي (في سهوة البلاطة).

    ويترتب على هذا التاريخ أن يكون في سوريا ثلاثة شيوخ عقل يمثلون الطوائف الثلاثة، مع مكانة رمزية أرفع تقليديًا لعائلة الهجري.
    ويحمل المنصب اليوم الشيخ يوسف جربوع، إلى جانب الشيخ حكمت الهجري الذي يُعدّ المرجع الروحي الأعلى، والشيخ أبو المنى في لبنان، في ما يشبه شبكة متكاملة من المرجعيات الروحية الدرزية في بلاد الشام.

    مشيخة العقل في فلسطين وإسرائيل

    عرفت فلسطين التاريخية الطائفة الدرزية منذ أكثر من ألف عام، وكان للدروز فيها رئاسة روحية تجمع بين الوظيفة الدينية والاجتماعية.
    وفي عام 1957، اعترفت إسرائيل بالطائفة الدرزية كطائفة مستقلة، فأنشأت رئاسة روحية رسمية يرأسها آنذاك الشيخ أمين طريف (1898–1993)، الذي اعتُبر “شيخ العقل” والمرجع الديني الأعلى لدروز فلسطين.
    وبعد وفاته، تولى حفيده الشيخ موفق طريف المنصب حتى اليوم، ويُعرف بلقب “الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل”.

    مشيخة العقل في الأردن

    استقر الدروز في الأزرق ووادي السرحان شمال الأردن منذ أواخر القرن الثامن عشر، ثم انتقل كثير منهم إلى عمّان والزرقاء.
    ويقودهم اليوم الشيخ أبو أشرف عجاج مهنا عطا، الذي تمثل مشيخته المرجعية الدينية والاجتماعية والسياسية للطائفة في المملكة.
    ورغم قلة عدد الدروز في الأردن مقارنة ببلاد الشام، إلا أن مشيختهم تحافظ على الروابط الروحية مع مشيخات لبنان وسوريا ضمن إطار من الاستقلال الذاتي لكل منطقة.

  • رمزية “شيخ العقل” ووظائفه

    على الرغم من اختلاف الأنظمة القانونية في كل دولة، فإن الدور الجوهري لشيخ العقل يتلخص في النقاط الآتية:

    • المرجعية الروحية العليا التي تُشرف على التربية الدينية والعقيدة.
    • الوظيفة الاجتماعية في إصلاح ذات البين وحل النزاعات داخل الطائفة.
    • الإشراف على الخلوات، وهي أماكن العبادة والتعليم الروحي.
    • رعاية الأوقاف والممتلكات الدينية وتنظيم إدارتها.
    • تمثيل الطائفة أمام السلطات والحفاظ على استقلالها الديني.

    ويُعرف شيخ العقل بالتجرّد والزهد والابتعاد عن الأضواء، ويُنظر إليه بوصفه نموذجًا أخلاقيًا يُحتذى به أكثر من كونه زعيمًا سياسيًا.

  • لبنية الهرمية الدينية عند الدروز

    يتكوّن الهرم الديني الدرزي من ثلاث مراتب متدرجة:

    1.   المرتبة الثالثة: وهي التي يُختار منها “شيخ العقل” عادة، وتضم كبار الشيوخ الذين بلغوا مرتبة عالية من العلم والزهد.

    2.   المرتبة الثانية: تميّز بلباس خاص مقلم بالأبيض والأسود، وتضم كبار العلماء والدعاة.

    3.   المرتبة الأولى: وهي مرتبة الصفوة، يُعرف أصحابها بالعمامة “المكولسة”، ولا يحملون لقبًا رسميًا لأنهم يمثلون أرقى صور الزهد والورع، ويُعتبر أحدهم المرجع الروحي الأعلى للطائفة.

  • استقلال المشيخات وتعاونها

    تتعاون مشيخات العقل في لبنان وسوريا وإسرائيل والأردن تعاونًا روحيًا واجتماعيًا، مع الاحتفاظ باستقلال كل مرجعية داخل نظامها السياسي.
    ويُعدّ هذا التعاون نوعًا من التنسيق العقائدي غير الرسمي، حيث تتبادل المشيخات الزيارات والمراسلات في المناسبات الدينية، من دون تدخل في الشؤون الداخلية.
    ومن أشهر صور هذا التعاون التاريخي، ما حدث عام 1934 عندما تدخل مشايخ لبنان للصلح في أزمة طائفية داخل فلسطين، وكذلك في عام 1947 حين سافر الشيخ أمين طريف إلى دمشق لحقن دماء الدروز في جبل العرب.

  • الخلوة: القلب الروحي للمشيخة

    تُعتبر الخلوة المكان المركزي في الحياة الدينية الدرزية، حيث يجتمع العُقّال مساء كل جمعة لتلاوة الكتب المقدسة ومناقشة المسائل الروحية.
    ولا يُسمح للعامة بحضور هذه الجلسات إلا في عيد الأضحى، الذي يُعدّ عيدهم الديني الرئيس.
    وتُشرف مشيخة العقل على إدارة الخلوات وصيانتها، كما تشرف على توجيه الأجيال الجديدة نحو السلوك الأخلاقي والزهد في الدنيا، وهي بذلك تمارس وظيفة تربوية روحية بامتياز.

  • مشيخة العقل بين الدين والمجتمع

    تحتل مشيخة العقل مكانة فريدة لأنها تجمع بين الدور الديني والدور الاجتماعي، إذ يُنظر إلى شيخ العقل كـ“حَكَم” في الخلافات، ومرجع في الفتاوى، ووسيط بين الزعامات السياسية.
    ويكتسب المنصب وزنه من الثقة الشعبية والسمعة الدينية أكثر من أي سلطة رسمية.
    كما يبتعد شيوخ العقل عن الانخراط المباشر في الصراعات السياسية، محافظةً على استقلال الموقف الروحي للطائفة.

  • خاتمة

    إن “مشيخة العقل” عند الدروز ليست مجرد مؤسسة دينية، بل تجسيد لمنهج التوحيد في الحياة، حيث يمتزج الفكر بالعقل، والدين بالأخلاق، والزهد بالمسؤولية.
    وقد استطاع هذا المنصب عبر القرون أن يحافظ على تماسك الطائفة واستقلالها الروحي في وجه التحولات السياسية والاجتماعية في المنطقة.
    وبينما تختلف تفاصيل التنظيم من بلد إلى آخر، يبقى جوهر الفكرة واحدًا: العقل هو النور الذي يقود إلى التوحيد، وشيخ العقل هو حارس هذا النور في مجتمع الموحدين الدروز.