حُكْمُ نِسْيَانِ القُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ: نَظْرَةٌ فِقْهِيَّةٌ شَامِلَةٌ، وَأَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَوَاقِعِيَّةٌ

حفظ القرآن الكريم نعمة عظيمة ومنقبة شريفة اختص الله بها من يشاء من عباده، وقد جاءت نصوص كثيرة في فضل حفظه وتعلمه وتعليمه. لكن، قد يمر المسلم بعد حفظه للقرآن بظروف أو تقصير ينتهي به إلى نسيانه، وهنا يثور التساؤل: ما حكم نسيان القرآن بعد حفظه؟ هل يأثم الإنسان على ذلك؟ وماذا قال الفقهاء في هذه المسألة؟ وهل هناك توبة لمن نسيه؟ في هذه المقالة، نستعرض الرأي الفقهي في المسألة، ونوضح الأدلة من الكتاب والسنة، ونقدم شرحاً مبسطاً يسهل على القارئ فهم الموضوع، مع لمحات تربوية تعين الحافظ على تثبيت ما حفظه.

حُكْمُ نِسْيَانِ القُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ: نَظْرَةٌ فِقْهِيَّةٌ شَامِلَةٌ، وَأَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَوَاقِعِيَّةٌ
حكم نسيان القرآن
  • أولاً: فضل حفظ القرآن الكريم

    أولاً: فضل حفظ القرآن الكريم
    بركة القرآن

    قبل الحديث عن حكم نسيانه، لا بد من التذكير بفضل حفظ القرآن، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

    "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (رواه البخاري).

    وقال أيضاً: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" (رواه أبو داود والترمذي).

    فحفظ القرآن من أفضل القربات، وهو رفعة في الدنيا والآخرة، ودليل على تعلق القلب بكلام الله، وهو نعمة توجب الشكر والصيانة.

  • ثانياً: حكم نسيان القرآن بعد حفظه

    اختلف العلماء في حكم نسيان القرآن بعد حفظه:

    1. القول بحرمة نسيانه:

    ذهب جمهور من العلماء إلى أن نسيان القرآن بعد حفظه من غير عذر من الكبائر، لما فيه من تفريط في أشرف العلوم، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها:

    ما رواه أبو داود عن سعد بن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

    "ما من رجل يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم".

    (قال بعض العلماء في إسناده ضعف، لكن يؤخذ به في باب الترغيب والترهيب).

    حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً:

    "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل نُسّي" (رواه البخاري ومسلم).

    واعتبر العلماء أن المقصود من الحديث ليس مجرد النسيان العارض، بل الإهمال المؤدي إلى نسيان ما حُفظ.

    2. القول بالكراهة دون التحريم:

    ذهب بعض العلماء إلى أن نسيان القرآن مكروه كراهة شديدة لكنه لا يصل إلى حد التحريم، وقالوا إن النسيان أمر طبيعي في البشر، وقد يبتلى به الإنسان رغم حرصه، فلا يحمل عليه وزر إذا لم يكن متعمداً.

    واستدلوا بقوله تعالى:

    "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة: 286).

    وقوله:

    "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" (البقرة: 286).

    وقد ثبت أن الله قال: "قد فعلت" كما في حديث مسلم.

     

  • ثالثاً: ضوابط مهمة في فهم حكم نسيان القرآن الكريم

     ثالثاً: ضوابط مهمة في فهم حكم نسيان القرآن الكريم
    تعاهد القرآن

    لفهم الحكم بدقة، لا بد من التفريق بين عدة حالات:

    1. نسيان ناتج عن تقصير وإهمال: وهذا الذي يُذم عليه صاحبه، لأنه لم يقم بواجب تعاهده لكلام الله، ولم يعتنِ بالحفظ والمراجعة.

    2. نسيان ناتج عن العوارض الطبيعية (كالمرض أو الانشغال الشديد أو الكبر): فهذا لا يأثم عليه العبد، وهو داخل في عذر النسيان الطبيعي.

    3. النسيان الكامل للقرآن: بعض العلماء يغلّظون في نسيان القرآن كاملاً، لأنه يدل على انقطاع عن كلام الله بشكل تام، وهو أخطر وأشد.

  • رابعاً: أقوال بعض العلماء في المسألة

    النووي: قال في "التبيان في آداب حملة القرآن": "نسيان القرآن مذموم ويأثم عليه إن كان بسبب تهاون وتفريط".

    ابن حجر العسقلاني: علّق على حديث البخاري: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت": أي لا ينبغي التفريط حتى ينسى.

    ابن قدامة في "المغني": لم ينص صراحة على الإثم، لكنه عَدَّ النسيان تقصيراً في أداء الأمانة.

  • خامساً: الحكمة من ذم نسيان القرآن

    1. لأن القرآن أمانة، وقد حمّله الله من يشاء من عباده، فيجب الحفاظ عليه ومراجعته.

    2. لأن نسيانه يدل على عدم تعظيم كلام الله.

    3. لأن حفظه وسيلة للعمل به، وإذا نُسي ضاعت هذه الوسيلة.

  • سادساً: ماذا يفعل من نسي القرآن؟

    على من نسي شيئاً من القرآن أن يتوب إلى الله، ويعزم على عدم التهاون مستقبلاً، ويبدأ من جديد في مراجعة ما نسيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

    "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت" (متفق عليه).

    أي أن القرآن سريع التفلت، فلا بد من التكرار والتعاهد.

  • سابعاً: هل هناك توبة لمن نسي القرآن؟

    نعم، باب التوبة مفتوح، والله تعالى أرحم من أن يُغلق بابه في وجه من نسي كتابه، بل قد يجعل له من نسيانه سبباً للعودة والارتباط الأقوى بكلامه، وقد قال تعالى:

    "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر: 53).

  • ثامناً: نصائح عملية لتثبيت الحفظ وعدم النسيان

    1. الورد اليومي للمراجعة: اجعل لك ورداً يومياً من المراجعة، حتى لو كان قليلاً.

    2. الصلاة بما تحفظ: تعوّد أن تصلي من المحفوظ، فإن الصلاة تربط القلب بالقرآن.

    3. الاستماع اليومي: استمع يومياً لما حفظت من تلاوة مرتلة بصوت قارئ تحبه.

    4. الربط بين المعاني: كلما فهمت المعاني، صعب أن تنساها.

    5. التكرار في الأوقات الفارغة: أثناء الطهي أو القيادة أو المشي.

    6. تحفيز النفس بالأجر: تذكّر أن حفظك رفعة لك عند الله.

  • تاسعاً: هل المرأة معذورة في نسيانها؟

    كثير من النساء يحفظن القرآن في فترة من حياتهن، ثم ينشغلن بالزواج والبيت والأطفال. وهنا نقول:

    إن كانت قد نسيت بسبب مشاغلها القهرية، فلها أجر نيتها بإذن الله، ولا إثم عليها، لكن يُستحب أن تعاود التثبيت كلما استطاعت.

    ويمكنها أن تراجع أثناء الطبخ أو مع أطفالها، أو عبر التطبيقات القرآنية، ولا يشترط التفرغ التام.

  • عاشراً: نسيان القرآن في ميزان التربية الإيمانية

    من المهم ألا ننظر لنسيان القرآن نظرة يأس أو ذنب لا يُغتفر، بل هو جرس تنبيه للنفس كي تعود، ورسالة من الله أن القلب انشغل عن كلامه، فلتكن العودة بروح جديدة، ومحبة متجددة، ويقين بأن القرآن لا يُستقر إلا في قلب نظيف متصل بالله.

  • الخاتمة

    نسيان القرآن بعد حفظه مسألة عظيمة، وتحتاج إلى تأمل في الأسباب والحلول، فالقول الراجح أن من نسيه عن تفريط فقد وقع في معصية تستوجب التوبة، أما من نسيه لعذر فلا حرج عليه. وعلى الجميع أن يستشعر عظمة هذا الكتاب، وأن يتعاهده بالمراجعة، ويطلب الثبات من الله.

    فإن كنت ممن حفظ ثم نسي، فابكِ على ما فات، وابدأ من جديد، فالقرآن لا يترك من عاد إليه.