المعاريض والتورية في الإسلام: مخرج شرعي من الكذب في ضوء الكتاب والسنة
تعرف على المعاريض والتورية في الإسلام كأحد الأساليب الشرعية التي تتيح للمسلم الخروج من الحرج دون الوقوع في الكذب، مع بيان حكمها وضوابطها وأمثلتها من السلف، وأثرها الأخلاقي والاجتماعي، في دراسة شرعية ولغوية متكاملة.

جدول المحتويات
- مقدمة
- مفهوم المعاريض والتورية لغةً واصطلاحًا
- الفرق بين الكذب والمعاريض
- أدلة مشروعية المعاريض والتورية من الكتاب والسنة
- أقوال العلماء في جواز المعاريض
- ضوابط استعمال المعاريض والتورية
- أمثلة واقعية من السلف الصالح في استعمال المعاريض
- تطبيقات عملية معاصرة للمعاريض
- متى تصبح التورية محرمة؟
- الحكمة الأخلاقية من تشريع المعاريض
- أثر المعاريض في المجتمع
- الجانب التربوي في تعليم المعاريض
- من فقه الأقوال: متى تُعد التورية واجبة؟
- بين التورية والمداراة والمداهنة
- نماذج قرآنية راقية للتورية
- الخاتمة
-
مقدمة
يُعدّ الصدق من أعظم الفضائل التي دعا إليها الإسلام، وهو ميزان الإيمان ودليل التقوى، كما قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
(التوبة: 119)غير أن حياة الإنسان قد تضعه أحيانًا أمام مواقف صعبة يضطر فيها إلى إخفاء الحقيقة تجنبًا لمفسدة، أو حماية لنفسه، أو دفعًا لضرر، وهنا جاءت المعاريض والتورية كبديل شرعي حكيم يحقق المقصد دون الوقوع في الكذب.
فالإسلام لا يبيح الكذب إلا في أضيق الحدود، لكنه يفتح باب "المعاريض" كمساحة فقهية مرنة تحفظ الدين والخلق والعلاقات. -
مفهوم المعاريض والتورية لغةً واصطلاحًا
???? من حيث اللغة
- المعاريض: جمع معرَض، وهي من “العَرْض” أي الجانب، لأن المتكلم يعرض عن المعنى المباشر إلى معنى آخر قريب من الصدق.
- التورية: من “ورّى الشيء” أي ستره وأخفاه. وقد ورد أصلها في القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾ (المائدة: 31)
أي يسترها ويغطيها.???? من حيث الاصطلاح
عرّفها الإمام النووي بقوله:
"أن يطلق المتكلم لفظًا هو ظاهر في معنى، ويقصد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره."
أما ابن حجر فبيّن أن التورية:
"استعمال لفظ له معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد، والمراد هو البعيد."
- المعاريض: جمع معرَض، وهي من “العَرْض” أي الجانب، لأن المتكلم يعرض عن المعنى المباشر إلى معنى آخر قريب من الصدق.
-
الفرق بين الكذب والمعاريض
من الخطأ أن يُظن أن المعاريض نوع من الكذب؛ فالفرق بينهما دقيق لكنه جوهري:
وجه المقارنة
الكذب
المعاريض والتورية
التعريف
الإخبار بخلاف الواقع عن قصد
استعمال لفظ يحتمل الصدق والباطل، مع قصد المعنى الصادق
القصد
التضليل أو الإخفاء بالباطل
إخفاء الحقيقة دون مخالفة للصدق
الحكم الشرعي
محرّم مطلقًا إلا في حالات الضرورة
جائز عند الحاجة، مكروه بدونها
النية
فاسدة (إخفاء أو تضليل)
صالحة (درء مفسدة أو تحقيق مصلحة)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب."
(رواه البخاري في الأدب المفرد) -
أدلة مشروعية المعاريض والتورية من الكتاب والسنة
1. من القرآن الكريم
استعمل الأنبياء المعاريض في مواضع شرعية لحماية الحق أو اتقاء المفسدة، ومن ذلك:o قول إبراهيم عليه السلام لقومه:
﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ (الصافات: 89)
أي مريض القلب من عبادة الأصنام، لا من مرض البدن.o وقوله عليه السلام:
﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ (الأنبياء: 63)
أي على سبيل التعريض ليدعوهم للتفكر، لا الكذب الحقيقي.2. من السنة النبوية
o قال النبي ﷺ:
"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا." (متفق عليه)
أي أن من يتكلم بمعاريض لتحقيق الإصلاح لا يُعد كاذبًا.o كما قال ﷺ:
"إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف." (رواه أبو داود)
أي ليوهم الناس أنه أصيب برعاف، وهذه تورية فعلية مشروعة. -
أقوال العلماء في جواز المعاريض
· ابن القيم قال في زاد المعاد (2/145):
"يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضررًا لذلك الغير، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه."
والمقصود هنا "الكذب بمعنى المعاريض"، لا الكذب الصريح.· ابن الجوزي وضع قاعدة فقهية دقيقة فقال:
"كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو مباح إن كان المقصود مباحًا، وإن كان واجبًا فهو واجب."
· النووي في الأذكار:
"فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة أو حاجة لا بد منها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإلا فهو مكروه."
-
ضوابط استعمال المعاريض والتورية
لا يجوز للمسلم أن يستعمل المعاريض بلا قيد أو ضابط، بل وضع الفقهاء لذلك شروطًا دقيقة، منها:
1. وجود الحاجة أو المصلحة
o كدفع ضرر، أو ستر مسلم، أو إصلاح ذات البين.
o أما إن كان المقصد دنيويًا بحتًا أو فيه غش وخداع، فحرام.
2. ألا يُضَيّع بها حقًا أو يُبطل بها باطلاً
فالتورية لا تُستعمل لتضييع الحقوق أو التهرب من الواجبات، مثل الكذب في العقود أو المعاملات.3. أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى المقصود لغةً
فلا يجوز استعمال لفظ لا يحتمل المعنى الصادق، لأن ذلك كذب صريح.4. عدم الإكثار منها
قال العلماء: “من أكثر من المعاريض، أورثت لسانه الكذب.” أي يعتاد المواربة حتى يزول صدقه.5. حسن النية وصفاء المقصد
لأن النية هي الفارق بين الصدق المشروع والخداع المحرّم. -
أمثلة واقعية من السلف الصالح في استعمال المعاريض
1. الإمام أحمد بن حنبل
كان إذا جاءه من لا يرغب في لقائه، قال لخادمه: “ليس المروذي هنا”، ويشير بيده إلى موضع غير ظاهر، فيصدق في قوله دون أن يكذب.2. سفيان الثوري
لما دعاه الخليفة المهدي وأراد الانصراف، حلف أنه سيعود، فخرج ثم رجع وأخذ نعله، فقال: “أوفيتُ بيميني”، أي عاد فعلاً لأخذ نعله.3. حماد بن أبي سليمان
كان إذا أتى من لا يحب الجلوس معه، قال: “ضرسي، ضرسي!” فيظن أنه متألم، فيتركه الزائر.4. الإمام الشافعي
كان يقول: “الكيس من إذا سئل أجاب جوابًا يُرضي ولا يُؤثم.” أي بالحكمة واللفظ المزدوج. -
تطبيقات عملية معاصرة للمعاريض
1. في التعامل الاجتماعي
إذا سُئل المسلم عن أمر خاص لا يرغب في التصريح به، كأسباب غيابه أو دخله المالي، يمكنه أن يعرض بجواب عام لا يتضمن كذبًا، مثل:
“الأمور بخير الحمد لله” أو “مشغول قليلًا هذه الأيام”، دون إفصاح صريح.2. في مواقف الخوف أو الظلم
لو سأل ظالم عن مكان شخص يريد إيذاءه، جاز أن يورّي بقوله: “ما رأيته اليوم” وهو يقصد وقتًا معينًا.3. في محيط العمل أو التعليم
بدل أن يبرر تأخره بكذب، يمكن أن يعرض بقول عام كـ “حدثت ظروف بسيطة” دون الكذب.4. بين الزوجين
يجوز للزوج أو الزوجة استخدام التورية لإدامة المودة، كأن يقول أحدهما “أنتِ أجمل النساء في عيني”، وهو يقصد في نظره الشخصي، لا على الإطلاق. -
متى تصبح التورية محرمة؟
رغم جوازها عند الحاجة، إلا أن التورية تصبح محرّمة في الحالات التالية:
1. إذا استُعملت لإبطال حق أو أكل مال بغير حق.
2. إذا تضمنت خداعًا يُلحق ضررًا بالغير.
3. إذا كانت وسيلة للتحايل على الشرع.
4. إذا اعتادها المرء في حديثه حتى فقد الناس الثقة بكلامه.
5. إذا ترتب عليها مفسدة أعظم من تركها.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"التعريض لغير حاجة أو مصلحة حرام، لأنه صورة من صور الغش والخداع."
-
الحكمة الأخلاقية من تشريع المعاريض
يُبرز تشريع المعاريض وسطية الإسلام في التعامل مع الحقيقة، فهو لا يفرض الصراحة المطلقة في كل موقف، ولا يبيح الكذب مطلقًا، بل يوازن بين الصدق والمصلحة.
فهو فقه القول الذي يعلّم المسلم كيف يقول الحقيقة دون أن يُفتن أو يظلم أحدًا.ومن حكم تشريعها:
1. حماية المسلم من الضرر والحرج.
2. إبقاء الودّ بين الناس دون كذب.
3. إصلاح العلاقات دون تضليل.
4. تحقيق المصلحة دون تجاوز حدود الصدق.
-
أثر المعاريض في المجتمع
إذا استُعملت المعاريض بفقه وضوابط، فإنها تعزز:
- الثقة المتبادلة القائمة على النية الحسنة.
- الذكاء الاجتماعي في التعامل مع المواقف الحرجة.
- الخلق الرفيع في الكلام والتصرف.
أما سوء استخدامها فيؤدي إلى:
- زعزعة الثقة بين الناس.
- انتشار التلاعب بالألفاظ.
- ضعف المروءة وغياب الصراحة الشرعية.
- الثقة المتبادلة القائمة على النية الحسنة.
-
الجانب التربوي في تعليم المعاريض
ينبغي للمربين والعلماء أن يعلّموا الناس كيف يستخدمون المعاريض بحكمة، لا كأداة للخداع، بل كوسيلة للتهذيب وضبط اللسان.
وقد كان الصحابة يربّون أبناءهم على الصدق، ويعلّمونهم أن التورية باب ضيق لا يُفتح إلا للضرورة.قال ابن المبارك رحمه الله:
“في المعاريض مندوحة عن الكذب، لكنها لا تليق إلا بمن عرف متى يقولها ومتى يصمت.”
-
من فقه الأقوال: متى تُعد التورية واجبة؟
قد ترتقي التورية من الإباحة إلى الوجوب في حالات خاصة، مثل:
- إذا كانت الوسيلة الوحيدة لحماية نفس معصومة من القتل أو الأذى.
- إذا أدت إلى حفظ سرّ يُؤتمن عليه المسلم.
- إذا كان في التصريح بها ضرر محقق على الدين أو النفس أو العرض.
وهذا ما دل عليه تصرف الحجاج بن علاط حين كذب على المشركين في مكة ليأخذ ماله دون ضرر على المسلمين، فكانت مصلحته راجحة.
- إذا كانت الوسيلة الوحيدة لحماية نفس معصومة من القتل أو الأذى.
-
بين التورية والمداراة والمداهنة
يخلط بعض الناس بين هذه المفاهيم الثلاثة، وهي متمايزة شرعًا:
المفهوم
التعريف
الحكم
التورية
ستر المعنى الحقيقي بلفظ محتمل
جائزة عند الحاجة
المداراة
الرفق بالناس وترك الغلظة دون ترك الدين
مطلوبة
المداهنة
ترك الحق أو السكوت عن الباطل لمصلحة دنيوية
محرّمة
فالمسلم الحكيم يجمع بين التورية والمداراة، ويجتنب المداهنة.
-
نماذج قرآنية راقية للتورية
- يوسف عليه السلام حين قال لإخوته:
﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ (يوسف: 70)
أي سارقون لأخيهم من أبيكم، لا للمال.- إبراهيم عليه السلام حين قال:
﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ (الصافات: 89)
تعريضًا ليغيب عنهم في عيدهم.- الأنبياء عمومًا كانوا يستعملون القول اللين الذي يحمل المعنى الصادق دون الصدام المباشر.
- يوسف عليه السلام حين قال لإخوته:
-
الخاتمة
المعاريض والتورية ليست حيلة لغوية ولا تحايلاً شرعيًا، بل فنّ من فقه القول وسلوك أخلاقي رفيع يستعمله المسلم بحذر وورع، حين لا يجد سبيلًا آخر لتحقيق المصلحة أو دفع المفسدة.
فهي جسر بين الصدق الكامل والضرورة الشرعية، تحفظ للسان هيبته، وللقلب صدقه، وللمجتمع ثقة أفراده.قال ﷺ:
"إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار." (متفق عليه)
ولذلك كانت القاعدة:
"في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولكن الصدق أمان، وهو الأصل في كل حال."