الإذلاق والإصمات في علم التجويد وصفات الحروف
تعرف على الكلمات الأعجمية في القرآن الكريم مثل إستبرق وسجّيل وقسطاس، مع بيان أصولها الفارسية والرومية والحبشية، وكيف تناولها العلماء بالقاعدة الصوتية (الإذلاق والإصمات) لتمييز الأصيل من الدخيل في العربية.

-
مقدمة
علم التجويد من أشرف العلوم التي عني بها علماء الأمة الإسلامية، إذ به يُصان كلام الله تعالى عن التحريف والتغيير، وتُحفظ مخارج الحروف وصفاتها على النحو الذي أُنزل به القرآن الكريم. ومن أبرز مباحث هذا العلم "صفات الحروف"، التي تُبيّن خصائص الحروف الصوتية وكيفية النطق بها. وتنقسم الصفات إلى قسمين: صفات لها ضد وصفات لا ضد لها. ومن بين الصفات ذات الضد، تأتي صفتا الإذلاق والإصمات، وهما من الصفات التي اهتم بها علماء التجويد واللغة، لما لهما من أثر في معرفة فصاحة الكلمة وأصولها.
-
تعريف الإذلاق
الإذلاق لغة
الإذلاق مأخوذ من الذلق وهو الطرف. يقال: "ذَلِقَ لسانه" أي صار حادًّا سريع النطق.
الإذلاق اصطلاحًا
هو خفة الحرف عند النطق به لخروجه من طرف اللسان أو من إحدى الشفتين أو منهما معًا، مما يجعل الحروف المذلقة أكثر سهولة في النطق، وأسرع في الجريان.
حروف الإذلاق
جمعها العلماء في قولهم: "فر من لب"، وهي ستة أحرف:
- الفاء (ف)
- الراء (ر)
- الميم (م)
- النون (ن)
- اللام (ل)
- الباء (ب)
وسُميت هذه الحروف مُذلقة لخروجها من طرف اللسان (ل، ن، ر) أو من الشفتين (ف، ب، م).
أثر الإذلاق في اللغة
الحروف المذلقة تعدّ ركناً من أركان الكلمة العربية الأصيلة، حيث تكثر في الكلمات المأثورة عن العرب، وتدخل في تركيب الكلمات الرباعية والخماسية لتسهيل النطق بها.
- الفاء (ف)
-
تعريف الإصمات
الإصمات لغة
الإصمات مأخوذ من "الصمت" أي المنع.
الإصمات اصطلاحًا
هو ثِقَل الحرف عند النطق به لخروجه بعيدًا عن طرف اللسان والشفتين. أي أن الحرف المصمت يُثقل في النطق مقارنة بالحروف المذلقة.
حروف الإصمات
هي جميع الحروف الهجائية ما عدا حروف الإذلاق الستة، أي ثلاثة وعشرون حرفًا، وتسمى مصمتة لثِقَل النطق بها وابتعاد مخارجها عن طرف اللسان والشفتين.
-
الفرق بين الإذلاق والإصمات
- الحروف المذلقة: خفيفة النطق، تخرج من طرف اللسان أو الشفتين.
- الحروف المصمتة: ثقيلة النطق، وتخرج من مواضع أبعد.
فالخفة تقابلها الثقل، والذلاقة تقابلها الصمت، وهذا هو الضابط الأساس للتفريق بينهما.
- الحروف المذلقة: خفيفة النطق، تخرج من طرف اللسان أو الشفتين.
-
الحكمة من وجود هاتين الصفتين
أشار علماء اللغة والتجويد إلى أن صفتَي الإذلاق والإصمات لا تتعلقان بالصوتيات من حيث الشدة والرخاوة أو الجهر والهمس، بل لهما بعدٌ لغوي. إذ يُستعان بهما على معرفة الكلمات العربية من الدخيلة. قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في "كتاب العين":
"فإذا وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معرَّاة من حروف الذلق أو الشفوية... فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدَعة ليست من كلام العرب."
وبناءً على ذلك، فإن العرب لم تعرف الكلمات الرباعية أو الخماسية إلا وفيها حرف أو أكثر من حروف الذلاقة، وإلا عدّت الكلمة أعجمية. ومثال ذلك كلمة "عسجد" التي تعني الذهب، وهي ليست من كلام العرب لعدم اشتمالها على حرف من حروف الذلاقة.
-
الكلمات الأعجمية في القرآن
العلماء ـ مثل السيوطي في المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب، وابن جرير الطبري وغيرهم ـ ذكروا أن في القرآن ألفاظًا ذات أصل أعجمي لكن عُرّبت واستُعملت بكثرة حتى صارت عربية بالاستعمال. ومن أشهرها:
- إستبرق (فارسي: نوع من الديباج الغليظ).
- سجِّيل (فارسي: حجر وطين).
- سرادق (فارسي: ما يحيط بالخيمة).
- مشكاة (حبشية: الكوّة في الحائط).
- قسطاس (رومي/يوناني: الميزان المستقيم).
- إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، نوح... (أسماء أعلام أعجمية).
تطبيق القاعدة
عند فحص بعض الألفاظ القرآنية نجد:
- كلمة عسجد التي مثّل بها الخليل ليست قرآنية، لكنه استشهد بها لأنها رباعية خالية من حروف الذلق والشفوية، فدلّ على أنها أعجمية.
- بعض الألفاظ القرآنية الأعجمية ينطبق عليها هذا الضابط، فمثلاً:
- إستبرق: رباعية، ولا يوجد فيها من حروف الذلاقة إلا "ر"، ولولاها لكانت خارجة عن القاعدة.
- سرادق: رباعية، لكنها مشتملة على الراء، فخرجت عن كونها خالية تمامًا.
- قسطاس: فيها السين والقاف والطاء والسين، لكنها مشتملة على التاء والسين مع غياب حروف الذلاقة، مما يدل على عجميتها.
إذن القاعدة التي ذكرها الخليل لا تعني أن كل كلمة أعجمية في القرآن خالصة من حروف الذلاقة، وإنما تعني:
- إن وجدت كلمة رباعية أو خماسية بلا أي حرف من حروف (فر من لب) فهي ليست من كلام العرب الأصيل.
- أما الكلمات القرآنية الأعجمية فهي أعجمية من حيث الأصل، لكنها دخلت في الاستعمال العربي وصارت جزءًا من المعجم القرآني.
- إستبرق (فارسي: نوع من الديباج الغليظ).
-
تطبيقات الإذلاق والإصمات في التجويد
1. تمييز الكلمات العربية: يساعد على معرفة الكلمات الدخيلة والأعجمية من الأصيلة.
2. فصاحة اللسان: يبرز مدى خفة الكلمات العربية وانسيابها مقارنة بغيرها من اللغات.
3. حفظ قواعد القراءة: يربط بين علم الأصوات وعلم التجويد، فيساعد القارئ على مراعاة صفات الحروف.
أمثلة توضيحية
- من الحروف المذلقة: كلمة لبن تحتوي على (ل، ب، ن) وكلها مذلقة.
- من الحروف المصمتة: كلمة صخر لا تحتوي على حروف الإذلاق، لكنها ثلاثية وليست رباعية أو خماسية، لذلك لا تُخالف القاعدة.
- من الحروف المذلقة: كلمة لبن تحتوي على (ل، ب، ن) وكلها مذلقة.
-
أقوال العلماء في المسألة
- قال ابن الجزري: "الإذلاق والإصمات لا أثر لهما في تحسين الصوت أو تغييره، وإنما فائدتهما لغوية لمعرفة أصالة الكلمات."
- وقال الخليل: "كل كلمة رباعية أو خماسية خلت من حروف الذلق والشفوية فهي أعجمية."
- ونقل العلماء عن سيبويه أن هذه القاعدة مما يميّز به اللسان العربي عن غيره.
الخلاف حول جدوى ذكرهما في الصفات
ذهب بعض العلماء إلى أن ذكر الإذلاق والإصمات في الصفات فضلة؛ لأنهما لا يؤثران في صوت الحرف ولا في أدائه، وإنما فائدتهما لغوية محضة. لكن جمهور العلماء أبقاها ضمن الصفات التي تُدرس لارتباطها بمباحث التجويد واللغة معًا.
- قال ابن الجزري: "الإذلاق والإصمات لا أثر لهما في تحسين الصوت أو تغييره، وإنما فائدتهما لغوية لمعرفة أصالة الكلمات."
-
الخاتمة
يتضح مما سبق أن صفتَي الإذلاق والإصمات تمثلان بعدًا لغويًا وصوتيًا في الوقت ذاته، فالأولى تدل على خفة النطق وخروجه من طرف اللسان والشفتين، والثانية تدل على ثقله وخروجه من غير ذلك. ورغم أن أثرهما في الصوتيات محدود، إلا أنهما يُعدّان مفتاحًا لفهم أصول الكلمات العربية، والتمييز بين الأصيل والدخيل في معجم العرب. ولأجل ذلك اهتم بهما علماء التجويد، وأدرجوهما في صفات الحروف لتبقى مرجعًا يحفظ للغة العربية أصالتها ولسانها نقاءه.