الفرق بين (اسطاعوا) و(استطاعوا) في سورة الكهف
الفرق بين "اسطاعوا" و"استطاعوا" في سورة الكهف من دقائق الإعجاز البياني في القرآن الكريم. تعرف على أقوال المفسرين مثل ابن كثير وابن عاشور، والحكمة من اختلاف اللفظين بين الصعود على السد ونقبه، مع شرح بلاغي ومعنوي متكامل.

-
مقدمة
تُعدُّ سورة الكهف من السور القرآنية التي زخرت بالدلالات العميقة واللطائف البيانية، وقد وردت فيها ألفاظ متقاربة المعنى لكنها مختلفة في المبنى، مثل لفظتي "اسطاعوا" و**"استطاعوا"**. هذان اللفظان وردا في قصة ذي القرنين عند الحديث عن بناء السد الذي حال بين يأجوج ومأجوج وبين القوم الضعفاء. قال تعالى:
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97].
وقد توقف المفسرون واللغويون عند هذا التنويع القرآني البديع، وتساءلوا: لماذا استُخدم مرة "اسطاعوا" بحذف التاء، ومرة "استطاعوا" بالتاء؟ وهل لهذا الاختلاف دلالة معنوية أم أنه مجرد تفنن بياني في الأسلوب؟
في هذا المقال، نعرض أقوال العلماء والمفسرين في هذه المسألة، ونبين الفروق بين اللفظين، مع الإشارة إلى الحكمة البيانية في سياق السورة.
-
المعنى اللغوي لكلمة "استطاع"
أصل الفعل استطاع من مادة (طوع)، أي القدرة على الفعل والتمكن منه. يقول ابن فارس: الطاء والواو والعين أصل يدل على الانقياد والقدرة. فيقال: أطاع الشيء إذا لان وانقاد، واستطاع إذا قدر على الفعل.
إذن، "استطاع" تدل على القدرة الكاملة، وتستخدم عندما يكون الفعل أشق وأثقل.
-
معنى "اسطاعوا"
"اسطاعوا" هي صيغة مخففة من "استطاعوا"، حيث حُذفت التاء طلبًا للتخفيف؛ لقرب مخرجها من الطاء، فيكون النطق أسهل. وهي لا تختلف من حيث المعنى العام عن "استطاعوا"، إلا أن السياق يحدد الدقة البيانية في استعمالها.
-
أقوال المفسرين في الفرق بين اللفظين
1. الرأي القائل بأن الاختلاف للتفنن البياني
ذهب فريق من المفسرين إلى أن مجيء "اسطاعوا" و"استطاعوا" في السياق نفسه، إنما هو تفنن بياني، لتجنب تكرار نفس الكلمة بلفظها؛ لأن الفصاحة تقتضي تنويع الأسلوب حتى لا يمل السامع.
وهذا الرأي ذكره الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير، حيث قال: حذف التاء في "اسطاعوا" للتخفيف، وجاء ذلك للتفنن في الفصاحة وكراهية إعادة نفس الكلمة بلفظها.2. الرأي القائل بأن الاختلاف له دلالة معنوية
ذهب فريق آخر إلى أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وعليه فإن "استطاعوا" بالتاء أقوى في الدلالة على القدرة من "اسطاعوا" بحذفها.
وبناءً على ذلك، فإن ما ورد في سورة الكهف من اختلاف بين التعبيرين جاء مراعاةً للسياق:- ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾: أي لم يتمكنوا من الصعود على السد، وهذا أهون من محاولة نقبه. فجاء التعبير هنا بالصيغة الأخف (اسطاعوا).
- ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾: أي لم يقدروا على نقب السد، وهذا أصعب وأشد، فجاء التعبير بالصورة الأقوى (استطاعوا).
وهذا ما قرره الإمام ابن كثير في تفسيره، حيث قال: "الصعود إلى أعلاه أهون من نقبه، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى".
- ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾: أي لم يتمكنوا من الصعود على السد، وهذا أهون من محاولة نقبه. فجاء التعبير هنا بالصيغة الأخف (اسطاعوا).
-
مقارنة بموضع موسى والخضر
الاختلاف بين "استطاع" و"اسطاع" لم يقتصر على قصة ذي القرنين فقط، بل ورد أيضًا في قصة موسى والخضر عليهما السلام. قال تعالى:
- ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78].
- ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82].
وقد بيّن المفسرون أن الاختلاف هنا أيضًا له دلالة:
- في البداية، كان الأمر شديدًا على موسى عليه السلام لأنه لم يعرف الحكمة وراء أفعال الخضر، فجاءت الكلمة بصورتها الأثقل "تستطع".
- وبعد أن علم السبب وصارت الأمور أوضح، خفّ وقعها عليه، فجاءت الكلمة بصورتها الأخف "تسطع".
- ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78].
-
أقوال بعض المفسرين
- ابن عاشور: أكد أن الحذف للتخفيف وللتفنن في الأسلوب، مع مراعاة السياق.
- ابن كثير: أشار إلى أن الصعود على السد أهون من نقبه، فجاء التفاوت اللفظي موافقًا للتفاوت في المعنى.
- القاسمي: ختم كلامه في تفسيره بلطيفة قال فيها: "هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك"، أي أن التنويع في اللفظ من جماليات القرآن التي تُؤخذ بقبول حسن دون تكلف مفرط.
- ابن عاشور: أكد أن الحذف للتخفيف وللتفنن في الأسلوب، مع مراعاة السياق.
-
الحكمة البيانية
من يتأمل هذا التنويع القرآني يدرك أن القرآن يوازن بين الفصاحة والبلاغة من جهة، والدقة المعنوية من جهة أخرى. فهو يراعي:
1. جمال اللفظ: من خلال التنويع وعدم التكرار.
2. مطابقة المعنى للسياق: فجاء الأخف في الموضع الأخف، والأثقل في الموضع الأشد.
-
الخلاصة
إن الفرق بين "اسطاعوا" و"استطاعوا" في سورة الكهف ليس مجرد اختلاف لفظي، بل هو من دقائق الإعجاز القرآني:
- اسطاعوا: أخف، وجاءت في ما هو أهون (الصعود على السد).
- استطاعوا: أثقل، وجاءت في ما هو أصعب (نقب السد).
وهذا يبرز مدى الدقة في اختيار الألفاظ القرآنية، بحيث لا يمكن استبدال كلمة بأخرى دون أن يختل المعنى أو يفقد السياق بلاغته.
- اسطاعوا: أخف، وجاءت في ما هو أهون (الصعود على السد).