حكم قضاء السنن الرواتب وأجرها في ضوء النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء
مقالة شرعية موسعة توضح حكم قضاء السنن الرواتب، مع بيان الأدلة من القرآن والسنة، وترجيحات الفقهاء، وأجر السنن المؤكدة وفضلها، وأقوال الأئمة المتقدمين والمعاصرين.
-
مقدمة
تعدّ السنن الرواتب واحدة من أهم أبواب الارتقاء الروحي وبناء منظومة الانضباط التعبدي في حياة المسلم. وقد عني الفقهاء قديمًا وحديثًا ببيان حكم المواظبة عليها، ومدى استحباب قضائها عند فوات وقتها، واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة من السنة النبوية، مما جعل هذا الباب من الفقه الشرعي متجددًا في كل زمان. ويهدف هذا المقال إلى تقديم معالجة موسعة واحترافية لمسألة قضاء السنن الرواتب، مع تحليل متعمّق لأقوال الفقهاء، وإبراز فضل هذه النوافل المؤكدة في بناء رأس المال الإيماني للعبد.
-
فضل السنن الرواتب ومكانتها
جاء في الحديث الصحيح الذي روته أم حبيبة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة» رواه مسلم.
وفي رواية الترمذي: «أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر».هذا الحديث أصلٌ عظيم في بيان فضل السنن الرواتب، وقد برزت فيه عدة نقاط جوهرية:
1. المواظبة النبوية
رافقت السنن الرواتب حياة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مستمرة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا... ثم يدخل فيصلي ركعتين» رواه أحمد وأبو داود.المداومة هنا مؤشر قوي على أن هذه النوافل ذات وزن تعبدي خاص.
2. التعزيز بالأجر المرتبط بالبناء الأخروي
جعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه السنن ثوابًا يتجاوز مجرد الإتيان بالفعل، ليكون وعدًا ببناء بيت في الجنة، وهو تعبير يدل على الاستقرار والرفعة والكرامة الأخروية.
3. الأوامر الداعمة للمواظبة
من أبرزها قوله صلى الله عليه وسلم في الوتر:
«يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» رواه أحمد والنسائي والترمذي.
وقوله في سنة الفجر:
«لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود.كل هذه الشواهد تؤكد أن السنن المؤكدة أعلى ترتيبًا من سائر النوافل، وأكثر تأثيرًا في ميزان العبد.
-
حكم قضاء السنن الرواتب عند فواتها
تباينت المذاهب الفقهية في مسألة قضاء السنن الرواتب بعد خروج وقتها، وتفصيل ذلك كالآتي:
1. مذهب الحنفية والمالكية على المشهور والحنابلة في قول
ذهبوا إلى عدم مشروعية القضاء، باستثناء سنة الفجر عند بعضهم.
2. مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة واختيار ابن تيمية وابن القيم
يرون مشروعية قضاء السنن الرواتب، سواء كانت قبل الصلاة أو بعدها، وأن الأفضل للعبد قضاء ما فاته من الرواتب مطلقًا.
3. ترجيح الإمام النووي
قال النووي رحمه الله:
«الصحيح عندنا استحباب قضاء النوافل الراتبة».
ووافقه محمد بن الحسن والمزني وأحمد في رواية.الأدلة الداعمة للقضاء
أولًا: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لسنن الرواتب
· قضى سنة الفجر بعد طلوع الشمس، كما في حديث أبي هريرة:
«من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس» رواه الترمذي وصححه الألباني.· قضى الركعتين بعد الظهر بعد العصر بسبب انشغاله بقوم من عبد القيس، كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
· كان إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر صلاهن بعدها. رواه الترمذي وحسنه.
· قضاء الوتر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكره» رواه أبو داود والترمذي.هذه الأدلة نصّية واضحة في مشروعية القضاء، بل إنها تمثل فعلًا نبويًا متكررًا.
ثانيًا: قاعدة فقهية
الرَّواتب مؤقتة بوقت معتبر، لذلك لا تسقط بفوات وقتها كالفريضة.
-
حكم قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي
هذا باب مستقل في كتب الفقه، ومبني على قاعدة: هل تقضى الرواتب بمطلقها أم يُمنع أداؤها في وقت النهي؟
القول الأول: الجواز (الشافعية، رواية عند أحمد، اختيار ابن تيمية)
الأدلة:
1. عموم قوله صلى الله عليه وسلم:
«من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها».
وهذا يشمل وقت النهي وغيره.2. قضاء النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الظهر بعد العصر.
3. النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها خاص بمن يتحرى الصلاة فيها، وليس قاضيًا.
القول الثاني: المنع (المذهب المشهور عند الحنابلة)
اعتمدوا على:
1. النهي الصريح:
«نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب».2. كون القضاء نافلة، وترك المحرم أولى من فعل المندوب.
الترجيح
الأقوى هو جواز القضاء حتى في أوقات النهي؛ لأنه فعل نبوي صريح، ولأن الاشتغال بالقضاء عبادة لها سبب خاص، فيخرج عن عموم النهي.
-
الأجر المترتب على قضاء السنن الرواتب
أصل الثواب الوارد في حديث أم حبيبة يشمل ما يأتي به المسلم أداءً أو قضاءً؛ لأنه:
1. جاء بنص عام:
«من صلى في يوم وليلة»
والقضاء أداء داخل في مسمى الصلاة في اليوم والليلة.2. القضاء تدارك، ومن تدارك يُرجى له ما يُرجى لمن أدى.
3. عمل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد أن القضاء ذو فضل، وليس مجرد رفع للتقصير.
-
تطبيقات عملية للمسلم المعاصر
1. جعل الرواتب جزءًا من “الروتين اليومي” التعبدي
تمامًا كأداء الفريضة، مما يساهم في رفع الطاقة الروحية وتنظيم اليوم.
2. الاستفادة من مفهوم “القضاء” لإدارة الوقت
قد ينشغل المسلم بعمل، دراسة، أمور أسرية… ومع ذلك يستطيع التدارك دون الشعور بالتقصير.
3. تفعيل السنن في بناء رأس المال الإيماني
مثل بيئة العمل، الانتظار، فترات الاسترخاء… كلها فرص لأداء ما فاته.
4. تعزيز الالتزام عبر فهم فضل الرواتب
مثل أنها تزيد الدرجات وتمحو الخطايا، وتبني للعبد بيتًا في الجنة.
-
خاتمة
إن مسألة قضاء السنن الرواتب ليست مجرد فرع فقهي، بل هي منهج عملي لإدارة علاقة المسلم بربه على مدار اليوم والليلة. وقد دلت الأدلة النصية، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وترجيحات كبار الأئمة، على أن القضاء مشروع وذو فضل عظيم، وأن المواظبة على الرواتب تعكس نضجًا إيمانيًا وتوازنًا روحانيًا يجعل العبد أكثر قربًا من ربه، وأكثر ثباتًا في عبادته.