هل يستغفر الإناء لِلَاعِقِه؟ دراسة حديثية وفقهية شاملة
مقالة فقهية حديثية متكاملة توضح حكم حديث “يستغفر الإناء لاعقه”، وتبيّن صحة الرواية من كتب السنة، والهدي النبوي الصحيح في حفظ الطعام ومنع إهداره، مع الأدلة الشرعية وتفسير العلماء.
-
مقدمة
تتداول بعض الأوساط الدينية والوعظية عبارة: “يستغفر الإناء للاعقه”، ويُنسب هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الحث على عدم إضاعة بقايا الطعام، ولعق القصعة، وشكر النعمة. وبحكم أن مثل هذه الأقوال تستعمل في الخطاب العام، فإن من الضروري الرجوع إلى كتب السنة المعتبرة لمعرفة مدى صحتها، وبيان الحكم الفقهي المرتبط بها، وتوضيح الهدي النبوي الصحيح في حفظ الطعام ومنع إضاعته.
-
التحقيق الحديثي لعبارة “يستغفر الإناء للاعقه”
الحفاظ على النعمة 1. هل ورد الحديث بهذا اللفظ في كتب السنة؟
بعد الرجوع إلى كتب الحديث المعتمدة، كـالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، والمعاجم والمسانيد، لم يُوجد أي حديث صحيح أو حسن فيه نصّ:
“يستغفر الإناء للاعقه”
بهذا اللفظ تحديدًا.2. هل ورد ما يقاربه في المعنى؟
نعم، وردت رواية تحمل معنى قريبًا، لكنها ضعيفة، فقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من أكل من قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة»
وقد ضعّفه الإمام الألباني في ضعيف الترمذي وضعيف ابن ماجه.إذن فالرواية غير ثابتة، ولا يصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
3. الخلاصة الحديثية
- اللفظ المشتهر غير موجود في كتب السنة.
- الرواية التي جاءت بمعناه ضعيفة ولا يُحتج بها.
- لا يجوز نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن نسبة الحديث الضعيف على أنه صحيح أو ثابت يُعد خطأً علميًا.
- اللفظ المشتهر غير موجود في كتب السنة.
-
الهدي النبوي الصحيح في حفظ بقايا الطعام
على الرغم من عدم ثبوت عبارة “يستغفر الإناء لاعقه”، فإن السنة النبوية ثبتت فيها أحاديث صحيحة تحث على لعق الأصابع والقصعة وعدم ترك الطعام للشيطان.
1. دليل صحيح من صحيح مسلم
روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمر أن تُسلت القصعة، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة».
– صحيح مسلم.هذا الحديث يوضح قاعدة عظيمة:
البركة قد تكون في الجزء المتبقي، أو في ما عَلِق بالأصابع، أو في اللقمة الساقطة.2. تفسير العلماء للحديث
قال النووي في شرح الصحيح:
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدرون في أيه البركة”:إن البركة قد تكون فيما بقي في أسفل القصعة، أو على الأصابع، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي المحافظة على ذلك كله.
وهذا المعنى يوافق الشريعة التي تحث على شكر النعمة وترك الكبر وترك الإسراف.
-
الحكم الشرعي لإضاعة الطعام ورميه
1. إضاعة المال محرمة
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.
والطعام يدخل في هذا الباب، لأنه من أعظم النِّعم وأهم أسباب الحياة.2. ماذا يفعل المسلم إذا تبقى طعام؟
المنهج الشرعي، كما نص العلماء، يمكن تلخيصه في الخطوات التالية:
1. أكله إذا كان صالحًا للأكل.
2. إعطاؤه للفقراء إن وجدوا.
3. إطعامه للحيوانات إن تعذر الأولان.
4. لا يجوز رميه إلا عند فسادٍ أو ضررٍ محقق.
هذا ينسجم مع مقاصد الشريعة في حفظ النعم وتحقيق الاقتصاد الرشيد ومنع التبذير.
-
هل تزول النعمة إذا أُهينت؟
لم يرد دليل صحيح صريح يقول إن النعمة “تزول” بمجرد إهانتها، أو أن من رمى الطعام “يُحرم منه”.
لكن:- إضاعة النعم سبب لعقوبات دنيوية وأخروية.
- ترك شكر النعمة سبب لذهابها، كما قال تعالى:
{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
- إضاعة النعم سبب لعقوبات دنيوية وأخروية.
-
لماذا اهتمت الشريعة بتعظيم الطعام؟
تظهر قيمة هذا الهدي في عدة نقاط:
- تعزيز ثقافة الاستدامة والاقتصاد الرشيد.
- محاربة الإسراف الذي هو من عمل الشيطان:
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. - ترسيخ التواضع وكسر الترف المذموم.
- ضمان العدالة الغذائية وحق الفقراء في الطعام.
- نشر قيم الشكر والصبر والمحاسبة الذاتية.
- تعزيز ثقافة الاستدامة والاقتصاد الرشيد.
-
خاتمة
بعد دراسة الأحاديث وأقوال العلماء، يتبين بوضوح أن:
- عبارة “يستغفر الإناء لاعقه” لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- لكن السنة الصحيحة جاءت بالحضّ على عدم ترك الطعام، ولعق الأصابع، وسلت القصعة، لأن البركة مجهولة الموضع.
- كما جاءت النصوص بتحريم إهدار الطعام واعتباره من إضاعة المال المنهي عنها.
- ويبقى الأصل الشرعي:
حفظ النعمة، واستعمالها فيما خُلقت له، وشكر الله عليها قولًا وعملاً.
- عبارة “يستغفر الإناء لاعقه” لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.