آداب الصائم عند الشتم والسب: معنى قول «إني صائم» وأحكامه الفقهية وأثره في كمال الصيام
مقالة فقهية موسعة تبيّن آداب الصائم عند الشتم والسب، ومعنى قول «إني صائم»، وحكمه الفقهي، وأقوال العلماء، وهل يؤثر الغضب والسب على صحة الصيام وأجره.
-
المقدمة
الصيام في الإسلام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل عبادة مركّبة تُعنى بتزكية النفس وضبط السلوك، وحفظ الجوارح، وفي مقدمتها اللسان. ومن هنا جاءت النصوص النبوية لتؤكد أن كمال الصيام يتحقق بحفظ الأخلاق، وأن الانحراف السلوكي – وإن لم يُبطل الصوم – فإنه ينقص أجره ويُفرغه من مقاصده التربوية.
ومن أعظم ما ورد في هذا الباب: توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للصائم إذا شُتم أو سُبَّ أو أُوذي أن يقول: «إني صائم».
-
دلالة النصوص النبوية في ضبط سلوك الصائم
ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«الصيام جُنَّة، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم».
وهذا الحديث أصلٌ عظيم في بيان:
- أن الصيام وقاية من المعاصي.
- أن الصائم مطالب بضبط ردود أفعاله.
- أن الامتناع عن الشتم عبادة مقصودة في ذاتها.
كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في روايات أخرى صحيحة:
«لا تُسابَّ وأنت صائم، فإن سابك أحد فقل: إني صائم»
(رواه أحمد، وصححه شعيب الأرنؤوط). - أن الصيام وقاية من المعاصي.
-
معنى قول الصائم «إني صائم» لغة وشرعًا
قول الصائم: «إني صائم» ليس مجرد إخبار عن حالة جسدية، بل يحمل أبعادًا شرعية وتربوية عميقة، منها:
1. إعلان الالتزام الشرعي: أي أن صومي يمنعني من الانخراط في السباب والجهل.
2. ضبط النفس عند الاستفزاز: فهو خطاب للنفس قبل أن يكون خطابًا للغير.
3. تحويل الموقف من صراع إلى تذكير: تذكير الشاتم بحرمة الصيام وآدابه.
ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله – في معنى الحديث – إن الأولى أن يقولها بلسانه، وهو الأظهر، لما فيه من الزجر والكف.
-
هل يقولها سرًّا أم جهرًا؟ خلاف العلماء وترجيحهم
تناول العلماء هذه المسألة بتفصيل دقيق:
1. القول بالجهر
وهو قول جمهور المحققين، ومنهم:
- الإمام الشافعي
- الخطابي
- ابن عثيمين
حجتهم:
- أن الجهر أبلغ في ردع الشاتم.
- وأنه يُظهر أن ترك الرد ليس عجزًا بل عبادة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
«وأُحب له أن ينزّه صيامه عن اللغط والمشاتمة، وإن شُتم أن يقول: أنا صائم»
(الأم 2/111).2. القول بالإسرار
وهو قول نُقل عن بعض أهل العلم:
- خشية الرياء.
- ولأن الصوم عبادة خفية.
3. التفصيل بين الفرض والنفل
قال به بعض العلماء:
- الجهر في الفرض.
- الإسرار في النفل.
الترجيح
رجّح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله الجهر مطلقًا، فقال:
«الصحيح أنه يقولها جهرًا في صوم النافلة والفريضة؛ لما فيها من بيان السبب وتذكير الشاتم»
(الشرح الممتع 6/432). - الإمام الشافعي
-
هل الشتم والسب والغضب يبطل الصيام؟
1. من حيث الصحة
اتفق عامة أهل العلم على أن:
- الشتم والغضب لا يبطلان الصيام.
- ولا يوجبان القضاء.
2. من حيث الأجر
لكنهم أكدوا أن:
- هذه الأفعال تنقص أجر الصيام.
- وقد تحرم الصائم من ثواب الصيام الكامل.
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء:
«لا يبطل ذلك صومه، ولكنه ينقص أجره، فعلى المسلم أن يحفظ لسانه…»
(فتوى رقم 7825). - الشتم والغضب لا يبطلان الصيام.
-
الشتم في ميزان العدالة الشرعية
نبّه العلماء إلى مسألة دقيقة، وهي:
- أن رد الشتم بسبّ والد الشاتم حرام.
- لأنه اعتداء على من لم يعتد.
وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
[الأنعام: 164].فالصائم مطالب بالعدل حتى في لحظة الغضب.
- أن رد الشتم بسبّ والد الشاتم حرام.
-
الصيام الكامل بين صحة العبادة وكمالها
منهج الشريعة يفرّق بين:
- صحة الصيام: وهي سقوط الفرض.
- كمال الصيام: وهو تحقيق مقاصده التربوية.
ولهذا قال بعض السلف:
«رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش».
فكل لفظ فاحش، أو سب، أو خصومة:
- لا تُبطل الصوم.
- لكنها تُضعف أثره الروحي.
- صحة الصيام: وهي سقوط الفرض.
-
الخاتمة
إن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للصائم بقول: «إني صائم» ليس مجرد أدب سلوكي، بل استراتيجية تربوية متكاملة، تحفظ للصيام هيبته، وللصائم كرامته، وللمجتمع توازنه الأخلاقي. فالصيام عبادة تُدار بالعقل والحكمة، لا بالغضب والانفعال، ومن فهم هذا المعنى ارتقى بصيامه من عادة موسمية إلى مشروع تزكية مستدام.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.