حقيقة رفع المسيح عيسى عليه السلام: دراسة عقدية وفقهية شاملة

دراسة شرعية موسعة تشرح حقيقة رفع المسيح عيسى عليه السلام حيًا إلى السماء، وتوضح تفسير قوله تعالى: «وَيَوْمَ أَمُوتُ»، وتبيّن الفرق بين الوفاة والرفع، مع عرض أقوال المفسرين كابن كثير والقرطبي وابن تيمية، وتوضيح الأدلة من القرآن والسنة حول حياة المسيح ونزوله آخر الزمان.

حقيقة رفع المسيح عيسى عليه السلام: دراسة عقدية وفقهية شاملة
حقيقة رفع المسيح عيسى عليه السلام: دراسة عقدية وفقهية شاملة
  • مقدمة

    تُعدّ قضية رفع المسيح عيسى عليه السلام من أكثر المسائل تداولًا في الحوار العقدي الإسلامي–المسيحي، ومن أكثر الموضوعات التي تحتاج إلى ضبط علمي يعتمد على النصوص القطعية من القرآن والسنة، وعلى أقوال أهل العلم من المفسّرين. كما يثار حولها إشكالات تتعلق بظاهر بعض الآيات مثل قوله تعالى على لسان عيسى:
    {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مريم: 33)، وقوله تعالى:
    {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55).

    وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم معالجة متكاملة تُزيل التعارض الوهمي بين الآيات، وتُبيّن حقيقة الرفع، ومعنى الوفاة، وأدلة بقاء المسيح حيًّا، وكيفية فهم النصوص على ضوء منهج التفسير الصحيح.

  • النصّ القرآني القطعي بنفي القتل والصلب وإثبات الرفع

    1. نفي القتل والصلب

    قال الله تعالى:
    {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157).

    هذه الآية نصٌّ جازم قاطع يفيد بنفي قتل المسيح وصلبه، مع تقرير أن ما وقع كان شَبَهًا، وهو من أعظم معجزات الله تعالى لحماية أنبيائه.

    2. إثبات الرفع الحقيقي بالروح والجسد

    قال تعالى:
    {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 158).

    والرفع المذكور هنا رفعٌ حقيقيٌّ، كما قرّره جمهور العلماء، بالروح والجسد معًا، وليس مجازيًا بمعنى رفع المنزلة فقط؛ لأن السياق في معرض نفي القتل الماديّ، فناسب أن يكون الرفع ماديًّا كذلك.

    قال ابن القيم رحمه الله:
    «أجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء».

  • معنى "إني متوفيك" في ضوء لسان العرب وأقوال المفسّرين

    جاء في قوله تعالى:
    {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55).

    وقد وقع الإشكال لدى بعض الناس في معنى "متوفيك"، هل هي وفاة موت أم نوم؟

    1. معنى الوفاة في لسان العرب

    لفظ "الوفاة" في القرآن يأتي على ثلاثة معانٍ:

    1.   الوفاة الحقيقية (الموت) – كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.

    2.   وفاة النوم – كما في قوله تعالى:
    {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} (الأنعام: 60).

    3.   الاستيفاء – كأن يُستوفى الإنسان من الأرض.

    2. قول جمهور المفسّرين: الوفاة هنا هي وفاة النوم

    صرّح بذلك:

    • ابن كثير
    • الطبري
    • القرطبي
    • ابن تيمية
    • ابن القيم

    قال ابن كثير رحمه الله:
    «أكثر المفسّرين على أن المراد بالوفاة هنا: النوم».

    والدليل على ذلك أن الله تعالى قال:
    {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
    فدلّ ذلك على أن الرفع كان بعد الوفاة مباشرة، ولو كانت وفاة موت، لكان جسده مدفونًا في الأرض كغيره من الأنبياء.

  • معنى قوله تعالى: {وَيَوْمَ أَمُوتُ} وهل هو دليل على أن المسيح مات؟

    قال تعالى على لسان عيسى:
    {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مريم: 33).

    1. استعمال الفعل الماضي والمضارع في الآية

    • "وُلِدتُّ": ماضٍ لأنه حدث وانتهى.
    • "أمُوتُ": مضارع لأنه سيقع مستقبلًا.
    • "أُبعث": مضارع كذلك لأنه في المستقبل.

    وقد نطق عيسى عليه السلام بهذه الآيات وهو في المهد، ومن الطبيعي أن يقول: "أموت" لأن موته لم يقع بعد.

    2. هل تدل الآية على أنه مات بالفعل؟

    لا.
    بل تدل على أن الموت سيقع له مستقبلًا شأنه شأن جميع الأنبياء، وهذا الموت يكون بعد نزوله في آخر الزمان.

    3. الربط بينها وبين الأحاديث الصحيحة

    ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
    «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم… ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى» (أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما بألفاظ متعددة).

    وهذا تصريح نبويّ بأن:

    • المسيح سينزل آخر الزمان.
    • يمكث في الأرض مدة.
    • ثم يموت ويصلّي عليه المسلمون.

    إذن قوله تعالى: "ويوم أموت" هو إخبار عن حادثة مستقبلية لم تقع بعد.

  • كيف نجمع بين جميع النصوص دون تعارض؟

    1. النتيجة الأولى: المسيح لم يمت

    لدينا نصوص قطعية:

    • نفي القتل
    • نفي الصلب
    • إثبات الرفع

    والرفع يعني بقاءه حيًّا، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.

    2. النتيجة الثانية: أنه توفّي قبل الرفع وفاة نوم

    وهذا لا ينافي بقاءه حيًّا؛ لأن النوم وفاة مجازية.

    3. النتيجة الثالثة: أن موته سيكون بعد نزوله

    وهذا يفسّر قوله تعالى: "ويوم أموت".

    4. النتيجة الرابعة: لا تعارض بين الآيات

    بل بينها تكامل:

    • آية آل عمران = وفاة نوم قبل الرفع
    • آية النساء = نفي القتل والصلب وإثبات الرفع
    • آية مريم = تقرير موته المستقبلي
    • أحاديث السنة = إثبات نزوله ثم موته ودفنه
  • الحكمة من رفعه وبقائه حيًّا

    ذكر العلماء حكمًا عديدة، منها:

    1. الرد على اليهود الذين أرادوا قتله

    فرفعه الله إليه تكريمًا له وتكذيبًا لهم.

    2. الرد على النصارى الذين غلوا فيه

    فنزوله آخر الزمان سيكشف الحقائق ويهدم العقائد الباطلة.

    3. إقامة الحجة على الخلق

    فإذا نزل آخر الزمان متحدّثًا بلغة الأنبياء وملتزمًا بالشرع الخاتم، كانت حجته قاطعة.

    4. تحقيق وعد الله بنصرة أتباعه

    قال تعالى:
    {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 55).

  • هل الرفع كان بالروح فقط أم بالروح والجسد؟

    أجمع جمهور العلماء على أن الرفع كان بالجسد والروح معًا، لأسباب أهمها:

    1.   لو كان الرفع روحًا فقط لكان جسده مدفونًا في الأرض، وهذا لم يرد به أثر صحيح.

    2.   الآية في سياق نفي القتل والصلب، فلو كان الرفع روحًا فقط لما كان في ذلك ردٌّ على دعوى الصلب.

    3.   الأحاديث تؤكّد نزوله جسدًا حيًّا آخر الزمان.

  • نزول المسيح في آخر الزمان ودوره في تحقيق العدل

    ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين:
    «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية…»

    وهذه المهام تدل على:

    1.   عودته الأرضية الحقيقية.

    2.   تصحيح العقائد الباطلة.

    3.   نشر العدل العالمي.

    4.   مشاركته المسلمين في قيادة العالم نحو التوحيد.

  • الخلاصة

    يمكن تلخيص المسألة كما يلي:

    • المسيح عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب.
    • رفعه الله إليه حيًّا بجسده وروحه.
    • قوله: "إني متوفيك" يعني وفاة النوم.
    • قوله: "ويوم أموت" يعني أنه سيموت مستقبلًا بعد نزوله.
    • نزوله آخر الزمان ثابت بالأحاديث المتواترة.
    • لا يوجد أي تعارض بين الآيات، بل هي حلقات متصلة تشرح القصة كاملة.