حكم إفطار كبير السن في رمضان وأحكام العجز عن الصيام والفدية

بيان حكم إفطار كبير السن في رمضان، وأحكام العجز عن الصيام والفدية، وحكم من عجز عن الصيام والإطعام معًا، دراسة فقهية موثقة.

حكم إفطار كبير السن في رمضان وأحكام العجز عن الصيام والفدية
حكم إفطار كبير السن في رمضان وأحكام العجز عن الصيام والفدية
  • مقدمة

    جاءت الشريعة الإسلامية قائمة على العدل والرحمة، وربطت التكاليف الشرعية بالقدرة والاستطاعة، فلم تُحمّل العباد ما لا يطيقون، ولم تُسقط العبادات عن القادرين بحجة التخفيف. ومن المسائل التي يتكرر السؤال عنها في كل عام: حكم صيام كبير السن، ومتى يجوز له الإفطار، وما الذي يترتب عليه من فدية أو سقوط، وماذا لو عجز عن الصيام والإطعام معًا؟

    وهذه المقالة تسعى إلى عرض هذه الأحكام عرضًا جامعًا محررًا، مع الاعتماد على النصوص القطعية وأقوال الأئمة، بعيدًا عن التعميم غير المنضبط أو ربط الأحكام بعمرٍ معيّن.

  • الأصل في وجوب الصيام وعلاقته بالاستطاعة

    الأصل أن صيام رمضان فريضة محكمة على كل مسلم بالغ عاقل قادر، لقوله تعالى:

    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾
    (سورة البقرة: 183)

    غير أن هذا الوجوب ليس مطلقًا، بل مقيَّد بالقدرة، إذ قرر القرآن قاعدة عامة في جميع التكاليف:

    ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
    (سورة البقرة: 286)

    وقال سبحانه:

    ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾
    (سورة التغابن: 16)

    ومن هنا قرر الفقهاء أن العجز الحقيقي سبب معتبر للتخفيف أو الإسقاط، وأن الأحكام الشرعية تدور مع الاستطاعة وجودًا وعدمًا.

  • هل كِبَر السن سبب شرعي لإفطار رمضان؟

    اتفق أهل العلم على أن كبر السن بذاته ليس سببًا شرعيًا للفطر، فلا يُعلّق الحكم ببلوغ سنٍّ معيّن كستين أو سبعين، وإنما العبرة بما يترتب على الصيام من قدرة أو مشقة أو ضرر.

    فقد يكون كبير السن قويًّا صحيح البدن يقدر على الصيام دون مشقة معتبرة، فيجب عليه الصيام بلا خلاف. وقد يكون شابًّا عاجزًا عن الصيام بسبب مرض مزمن، فيباح له الفطر.
    وعليه، فالميزان الشرعي هو القدرة الفعلية لا العمر الزمني.

  • حكم الشيخ الكبير العاجز عن الصيام عجزًا دائمًا

    الشيخ الكبير الذي يباح له الإفطار هو من لا يستطيع الصيام مطلقًا، أو يلحقه بالصيام مشقة شديدة غير محتملة، أو يخشى معه الضرر، ولا يُرجى زوال هذا العجز في المستقبل.

    فهذا الصنف من الناس يسقط عنه وجوب الصيام ولا يطالب بالقضاء، ويجب عليه عند جمهور الفقهاء إخراج الفدية، لقوله تعالى:

    ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾
    (سورة البقرة: 184)

    وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية تفسيرًا صريحًا فقال:

    «نَزَلَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، وَهُمَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا»
    رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به

  • أقوال الفقهاء في حكم الشيخ الكبير

    ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الشيخ الكبير العاجز عن الصيام يفطر ويجب عليه الإطعام، ولا قضاء عليه.
    وقال الإمام النووي رحمه الله:

    «الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، والمريض الذي لا يُرجى برؤه، لا صوم عليهما بلا خلاف، وتجب الفدية على الأصح»
    المجموع شرح المهذب (6/258)

    وقال ابن قدامة رحمه الله:

    «وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر وأطعم لكل يوم مسكينًا»
    المغني (4/396)

    أما المالكية فذهبوا إلى أن الصوم يسقط عن الشيخ الكبير، وتكون الفدية مستحبة لا واجبة، وهو قول معتبر في المذهب.

  • مقدار الفدية وكيفية إخراجها

    الفدية الواجبة عند من أوجبها هي إطعام مسكين عن كل يوم، ومقدارها مدٌّ من غالب قوت البلد، ويجوز إخراج الطعام نفسه، أو تمليك المسكين ما يجزئه، أو إشراكه في الطعام.
    وأجاز الحنفية إخراج القيمة نقدًا، إذا كان ذلك أنفع للمسكين.

  • مسألة من عجز عن الصيام والإطعام معًا

    وهذه مسألة دقيقة ينبغي إفرادها بالبيان، وهي حال الشيخ الكبير أو المريض مرضًا مزمنًا الذي لا يستطيع الصيام لعجز بدني، ولا يملك مالًا يخرج به الفدية.

    فهنا يجتمع عجزان: عجز عن العبادة البدنية، وعجز عن العبادة المالية.

    وقد نصّ الفقهاء على أن الصيام والفدية يسقطان معًا في هذه الحالة، ولا يلزمه شيء مطلقًا، لأن التكليف مشروط بالاستطاعة.

    قال الله تعالى:

    ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

    وقال سبحانه:

    ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾
    (سورة الحج: 78)

    وقال ابن قدامة رحمه الله نصًّا صريحًا:

    «فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْإِطْعَامِ أَيْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»
    المغني (4/396)

    وقال الإمام النووي رحمه الله:

    «فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ»
    المجموع (6/258)

    وعليه؛ فلا تبقى الفدية في ذمته، ولا يُطالب بها إن استمر العجز حتى الموت، ولا تُخرج عنه بعد وفاته.

  • هل يصوم الأولاد عن الشيخ الكبير؟

    لا يُشرع الصيام عن الحي، لأن الصوم عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة في حال الحياة. وإنما المشروع هو الفدية عند القدرة.
    أما الصيام عن الميت فقد ورد به النص، ويُقتصر فيه على ما دل عليه الدليل.

  • خلاصة جامعة للأحكام

    يمكن تلخيص المسألة في القواعد الآتية:

    • السن وحده لا يبيح الفطر
    • العبرة بالقدرة والمشقة
    • العجز الدائم يسقط الصيام
    • الفدية تجب مع القدرة وتسقط مع العجز
    • من عجز عن الصيام والإطعام فلا شيء عليه
    • لا قضاء ولا بدل ولا مطالبة بعد الموت
  • الخاتمة

    تُظهر هذه الأحكام دقة الفقه الإسلامي في الجمع بين حفظ أركان الدين ومراعاة أحوال الناس، فلم يُسقط الصيام عن القادر، ولم يُكلّف العاجز بما لا يطيق، بل ربط الأحكام بالواقع الحقيقي للمكلَّف، تحقيقًا لمقاصد الرحمة ورفع الحرج التي قامت عليها الشريعة.

  • أهم المصادر والمراجع

    1.   القرآن الكريم

    2.   ابن قدامة، المغني

    3.   النووي، المجموع شرح المهذب

    4.   عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة

    5.   تفسير الطبري

    6.   صحيح البخاري

    7.   صحيح مسلم