خَوْلَة بنت ثعلبة رضي الله عنها (المرأة التي سمع الله شكواها)

قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، المرأة التي سمع الله شكواها، ونزل بسببها حكم الظهار في القرآن الكريم، دراسة شرعية واجتماعية متكاملة.

خَوْلَة بنت ثعلبة رضي الله عنها (المرأة التي سمع الله شكواها)
خَوْلَة بنت ثعلبة رضي الله عنها (المرأة التي سمع الله شكواها)
  • مقدمة

    تمثل قصة الصحابية الجليلة خَوْلَة بنت ثعلبة رضي الله عنها محطة مفصلية في تاريخ التشريع الإسلامي، ليس فقط لكونها سببًا مباشرًا في نزول آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى إلى يوم القيامة، بل لأنها كشفت بوضوح عن فلسفة الإسلام في حماية الأسرة، وصيانة كرامة المرأة، وضبط الانفعال البشري بالتشريع العادل.
    لقد تحولت معاناة امرأةٍ واحدةٍ داخل بيتٍ فقيرٍ مغمور إلى تشريعٍ ربانيٍ عام، ألغى عادة جاهلية ظالمة، ورسّخ مبدأ أن الأسرة أولوية تشريعية، وأن الظلم الأسري لا يُترك بلا علاج.

  • التعريف بخولة بنت ثعلبة وزوجها

    هي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية الأنصارية رضي الله عنها، صحابية جليلة من نساء الأنصار، أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت زوجة الصحابي أوس بن الصامت رضي الله عنه، وهو أخو الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
    عُرفت خولة برجاحة العقل، وصدق الإيمان، والحرص الشديد على بيتها وأبنائها، وكانت مثالًا للمرأة المسلمة التي تجمع بين الحياء، والقوة في الحق، والوعي الشرعي.

  • سياق القصة وسبب النزول

    وقعت حادثة الظهار حين غضب أوس بن الصامت رضي الله عنه في خلافٍ أسري، فنطق بكلمة كانت معروفة في الجاهلية، فقال لزوجته: «أنتِ عليَّ كظهر أمي».
    وكان الظهار في الجاهلية يُعد تحريمًا مؤبدًا للزوجة دون طلاق، فتُعلّق المرأة فلا هي زوجة ولا مطلقة، وهو من أبشع صور الظلم الأسري.

    لما وقعت هذه الكلمة، امتنعت خولة عن معاشرة زوجها، وأدركت خطورة الموقف، فتوجهت مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض قضيتها بكل صدق وحرقة، وتقول:

    «يا رسول الله، أوسٌ تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ، فلما كبرت سني وكثر ولدي، ظاهر مني… وإن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا».

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل نزول الوحي، يقول لها:

    «ما أراكِ إلا قد حُرِّمتِ عليه»
    فتكرر جواب النبي، ومع ذلك لم تيأس خولة، بل رفعت شكواها إلى الله تعالى، تقول:
    «أشكو إلى الله فقري ووجدي».

  • نزول الوحي وحسم القضية

    نزول الوحي وحسم القضية
    سبب نزول آية قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها

    في تلك اللحظة الفارقة، نزل جبريل بالوحي، فأنزل الله تعالى الآيات الأربع الأولى من سورة المجادلة، فقال سبحانه:

    ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾
    ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ … إلى قوله تعالى:
    ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
    [سورة المجادلة: الآيات 1–4]

    وبهذا الوحي:

    • أُبطل الظهار كتحريم دائم
    • فُرضت له كفارة مرتبة
    • أُعيدت الكرامة للمرأة
    • حُفظ كيان الأسرة
  • كفارة الظهار وتدرج التشريع

    بيّنت الآيات الكريمة أن من ظاهر من زوجته لا يجوز له أن يمسها حتى يؤدي الكفارة، وهي على الترتيب:

    1.   تحرير رقبة

    2.   فإن لم يجد: صيام شهرين متتابعين

    3.   فإن لم يستطع: إطعام ستين مسكينًا

    وقد طبّق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم عمليًا، وساعد أوس بن الصامت رضي الله عنه بالصدقة، في مشهدٍ يجسد الرحمة التشريعية، والتكافل الاجتماعي، والواقعية في الأحكام.

  • الدلالات التشريعية والاجتماعية للقصة

    1. مكانة المرأة في الإسلام

    هذه القصة وحدها كافية لإبطال دعوى أن الإسلام ظلم المرأة؛ فامرأة واحدة:

    • تجادل النبي صلى الله عليه وسلم
    • يُسمع صوتها في السماء
    • تنزل سورة كاملة بسبب شكواها

    وقد قالت عائشة رضي الله عنها:

    «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات».

    2. مشروعية مطالبة المرأة بحقها

    لم تُلام خولة على شكواها، ولم تُتهم بقلة الأدب، بل كانت قدوة في الأدب مع الجرأة، والحياء مع المطالبة بالحق.

    3. ضبط الانفعال الذكوري بالتشريع

    جاء الإسلام ليقول بوضوح:

    الكلمة مسؤولية، والغضب لا يبرر الظلم.

    4. حماية الأسرة مقصد شرعي

    كل تفاصيل القصة تؤكد أن بقاء الأسرة واستقرارها مقصد أصيل في الشريعة، لا يُفرط فيه بكلمة طائشة.

  • خولة بنت ثعلبة وموقفها مع عمر بن الخطاب

    ومن عظيم فضلها، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف لها يسمع موعظتها طويلًا، فقال لمن تعجب من موقفه:

    «والله، لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تركتها إلا للصلاة، أتعلمون من هذه؟ هذه امرأة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا يسمع لها عمر؟»

  • الخاتمة

    إن قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها ليست مجرد حادثة تاريخية، بل نموذج تشريعي وإنساني خالد، يجسد:

    • عدل الإسلام
    • رحمة التشريع
    • كرامة المرأة
    • حماية الأسرة
    • واقعية الأحكام

    وستبقى خولة رمزًا لكل امرأة مظلومة، ودليلًا عمليًا على أن العدل في الإسلام لا يضيع، ولو بدأ بشكوى امرأةٍ فقيرةٍ في بيتٍ صغير.

  • المصادر والمراجع

    • القرآن الكريم – سورة المجادلة
    • تفسير الطبري
    • تفسير ابن كثير
    • تفسير القرطبي
    • أسباب النزول للواحدي
    • الإصابة في تمييز الصحابة – ابن حجر
    • موقع دار الإفتاء المصرية
    • شبكة إسلام ويب – أسباب النزول