حُكْمُ الطَّلَاقِ حَالَ الغَضَبِ فِي المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ.
الطلاق من أخطر الأحكام الشرعية؛ لأنه يهدم الأسرة ويفكك الروابط الزوجية، ولهذا ضبطه الشرع بضوابط دقيقة، منها النظر في حالة الزوج عند وقوع الطلاق، خاصة إذا كان غاضبًا. فهل يقع طلاق الغضبان أم لا؟ وما الحالات التي يُعتبر فيها الغضب مانعًا من وقوع الطلاق؟ هذا ما سنناقشه في هذه المقالة، مع تفصيل أقوال المذاهب الفقهية وأدلتها، وذكر أمثلة واقعية لتوضيح المسألة.

-
أولًا: تعريف الغضب وأثره على الطلاق
1. تعريف الغضب
الغضب هو حالة انفعالية تؤثر على العقل والإدراك، وتدفع الإنسان إلى أفعال وأقوال قد يندم عليها لاحقًا. والغضب درجات؛ منه الخفيف الذي لا يؤثر على العقل، ومنه الشديد الذي يُغلق على الإنسان قدرته على التفكير الصحيح.
2. أثر الغضب على الطلاق
الفقهاء اتفقوا على أن الغضب الشديد الذي يفقد الإنسان وعيه لا يقع فيه الطلاق، لكنهم اختلفوا في درجات الغضب الأخرى. لذلك قسّم العلماء طلاق الغضبان إلى ثلاث حالات رئيسية:
1. الغضب الشديد الذي يُفقد الإنسان عقله تمامًا (كالمجنون أو المغمى عليه) → لا يقع الطلاق بالإجماع.
2. الغضب المتوسط الذي يؤثر على الإرادة لكنه لا يُذهب العقل كليًا → محل خلاف بين الفقهاء.
3. الغضب العادي الذي لا يمنع القصد والإرادة → يقع الطلاق عند جميع المذاهب.
-
ثانيًا: آراء المذاهب الفقهية في طلاق الغضبان
اتفق جمهور الفقهاء (الحنفية، المالكية، الشافعية، والحنابلة) على أن الطلاق يقع في جميع حالات الغضب، إلا إذا بلغ الغضب درجة تُفقد الإنسان عقله وتمييزه، فيلحق بالمجنون والمغمى عليه، فلا يقع الطلاق حينئذٍ.
وفيما يلي تفصيل رأي الجمهور مع أدلتهم وأمثلة واقعية.
1. الطلاق يقع في حالتين باتفاق الفقهاء
1. الغضب العادي: وهو الغضب الطبيعي الذي لا يؤثر على وعي الإنسان، ويقع فيه الطلاق بالإجماع.
2. الغضب المتوسط: وهو الغضب الشديد الذي يثير الانفعال لكنه لا يُذهب العقل، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع الطلاق في هذه الحالة.
2. الطلاق لا يقع في حالة واحدة
الغضب الشديد جدًا الذي يُزيل العقل تمامًا، كمن يصل إلى حالة هيجان تجعله يتصرف تصرفات غير واعية، أو كمن يصيبه شبه فقدان للذاكرة اللحظي بسبب الصدمة.
هذا النوع من الغضب يُشبه الجنون أو الإغماء، وقد أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يقع فيه.
أدلة الجمهور على وقوع الطلاق في الغضب العادي والمتوسط
1. حديث النبي ﷺ: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (رواه أبو داود).
استدل الجمهور بأن الغضب لا يُفقد العقل إلا في أشد حالاته، وعليه، فإن الطلاق الصادر عن الغضب المتوسط يقع.
2. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1).
الطلاق عقدٌ ملزم، فلا يجوز التلاعب به بحجة الغضب العادي أو المتوسط.
3. قياس الغضب على السكر:
ذهب الشافعية إلى أن طلاق السكران يقع، فكذلك الغضبان إذا لم يصل إلى حالة فقدان الوعي التام.
4. قاعدة الفقهاء: "الأصل في الأقوال صدقها وصحتها حتى يثبت العكس."
فالطلاق الصادر عن الغضب يُعدّ صحيحًا إلا إذا أثبت الزوج أنه لم يكن واعيًا لما يقول.
استثناء الجمهور لحالة الغضب الشديد جدًا
الجمهور متفقون على أن الغضب الشديد جدًا الذي يُذهب التمييز لا يقع فيه الطلاق، مستدلين بحديث:
"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ" (رواه أبو داود).
اعتبروا أن الغضب الشديد الذي يجعل الإنسان يتصرف دون وعي يُشبه الجنون.
قياسًا على الإكراه:
لأن الإكراه يجعل الإنسان غير مختار في قوله، فكذلك من اشتد غضبه حتى لم يعد يدرك ما يقول.
أمثلة واقعية لتوضيح الحكم
1. رجل تشاجر مع زوجته وغضب لكنه كان واعيًا لما يقول، فطلقها بكامل إرادته.
الطلاق يقع بالإجماع.
2. رجل انفعل بشدة خلال مشاجرة وقال "أنت طالق"، لكنه كان متوترًا لكنه مدرك لما يقول.
الطلاق يقع عند الجمهور.
3. رجل فقد السيطرة على نفسه في لحظة غضب شديد جدًا، حتى لم يعد يتذكر ما قاله بعد أن هدأ.
الطلاق لا يقع عند الجمهور، لأنه كان في حالة تُشبه الجنون.
-
ثالثاً: رأي ابن القيم وابن تيمية في طلاق الغضبان
يرى كل من ابن القيم وابن تيمية أن الغضب ينقسم إلى ثلاث حالات:
1. الغضب العادي:
هو الغضب الطبيعي الذي لا يؤثر على العقل أو الإرادة.
حكمه: الطلاق يقع فيه، لأنه يصدر عن إدراك واختيار.
2. الغضب الشديد الذي يُفقد الإنسان السيطرة على نفسه لكنه لا يُزيل عقله تمامًا:
هو الغضب الذي يجعل الشخص يقول أو يفعل أشياء لم يكن ليقولها في حالته الطبيعية.
حكمه : الطلاق لا يقع في هذه الحالة، لأنه أشبه بالمُكره الذي لا يملك إرادة حرة عند التلفظ بالطلاق.
3. الغضب الشديد جدًا الذي يُذهب العقل تمامًا (الغضب الجنوني):
هو الذي يصل إلى حد الهذيان أو التصرفات غير الواعية.
حكمه: لا يقع الطلاق فيه بالإجماع، لأنه كالمجنون أو المغمى عليه.
الدليل:
أدلة ابن القيم وابن تيمية على عدم وقوع الطلاق في الغضب الشديد
1. حديث "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (رواه أبو داود).
فسّروا بأن الإغلاق هو انغلاق العقل بسبب الغضب الشديد.
2. حديث رفع القلم عن المجنون والنائم والصبي (رواه أبو داود).
قاسوا الغضب الشديد على الجنون، لأنه يجعل الإنسان غير مسؤول عن تصرفاته.
3. قياس الغضب على الإكراه:
استدلالاً بحديث النبي ﷺ عن طلاق المكره: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه" (رواه ابن ماجه).
قالوا إن الغضب الشديد قد يدفع الشخص إلى الطلاق رغمًا عنه، فيُعامل معاملة المكره.
4. النية والإرادة في الطلاق:
أكدوا أن الطلاق لا يكون صحيحًا إلا إذا صدر عن إرادة واعية، أما في الغضب الشديد، فإن الزوج قد يتكلم دون تفكير حقيقي.
-
رابعاً: التطبيق العملي في المحاكم الشرعية
القاضي ينظر في حالة الزوج عند وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق صادرًا عن وعي كامل يقع الطلاق.
إذا ثبت أن الغضب كان شديدًا جدًا بحيث أزال التمييز، فقد يحكم القاضي بعدم وقوع الطلاق.
بعض القضاة قد يأخذون برأي ابن تيمية في الغضب المتوسط، خاصة إذا ثبت أن الزوج لم يكن ليتخذ قرار الطلاق لولا حالة الغضب الشديدة التي كان فيها.
-
خاتمة
طلاق الغضبان من المسائل الفقهية التي تحتاج إلى دراسة دقيقة لحالة الزوج عند وقوع الطلاق. وقد اتفقت المذاهب على أن الطلاق لا يقع في حالة الغضب الشديد الذي يزيل العقل، واختلفوا في الغضب المتوسط. ولهذا، فإن الأحوط لمن وقع في مثل هذه الحالة أن يستفتي قاضيًا شرعيًا أو عالمًا ثقة ليحدد إن كان طلاقه واقعًا أم لا. كما أن الحذر من التلفظ بالطلاق أثناء الغضب الشديد هو الحل الأمثل لتجنب الوقوع في مثل هذه الإشكالات الشرعية.
تنبيه هام:
إنَّ محتويات هذه المقالة خاصَّةٌ بموقع مؤمنة الإلكترونيِّ، ولا نجيز لأحد أخذها أو الاقتباس منها دون الإشارة لرابطها في موقعنا ولا نسامح على سرقة تعبنا فيها؛ نظرًا للوقت والجهد المبذولين فيها وحفاظًا على الحقوق العلميَّة لمحتوى موقعنا.