حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالثَّلَاثِ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ

يكثر السؤال حول الطلاق ثلاثاً هل يقع واحدة أم ثلاث، وسنتناول في هذا المقال بيان حالات الطلاق بالثلاث مع بيان حكم كل منها مع الأدلة.

حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالثَّلَاثِ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ
حكم الطلاق بالثلاث
  • أولاً: الطلاق الثلاث في مجالس متفرقة

    صورته:

    وهو أن: يطلق الرجل زوجته طلقة أولى، ثم يراجعها خلال العدة أو يعقد عليها بعد انتهاء العدة، ثم يطلقها طلقة ثانية، ثم يراجعها أو يعقد عليها، ثم يطلقها الطلقة الثالثة.

    مثاله:

    قال الزوج: "أنتِ طالق" في شهر محرم، ثم راجعها قبل انتهاء العدة.

    بعد عدة أشهر، قال لها: "أنتِ طالق" للمرة الثانية، ثم راجعها.

    بعد مدة، قال لها: "أنتِ طالق" للمرة الثالثة.

    حكمه:

     يقع الطلاق الثلاث باتفاق الفقهاء، وتصبح الزوجة بائنًا من زوجها، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره زواجًا صحيحًا ويتم الدخول بها.

    الدليل:

     قوله تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ" [البقرة: 230].

     

  • ثانياً: الطلاق الثلاث في مجلس واحد بألفاظ متفرقة

    صورته:

    يقول الزوج لزوجته: "أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق" أو "أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق" دون فاصل زمني طويل.

    مثاله:

    قال الزوج لزوجته أثناء شجار: "أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق".

    حكمه:

    القول الأول: 

    جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المشهور عندهم: يقع ثلاثًا، لأن كل لفظ يعتبر طلقة مستقل.

    القول الثاني:

    ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الفقهاء، حيث ذهبوا إلى أن الطلاق الثلاث إذا وقع في مجلس واحد لا يُحسب إلا طلقة واحدة. وهذا ما قال به أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس في أحد قوليه، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من التابعين كطاووس، وعطاء بن أبي رباح، وجابر بن زيد، وداود الظاهري. كما أيده بعض فقهاء المالكية وبعض الحنابلة، ومن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، واستدلوا على ذلك بالقرآن والسنة.

    أدلة اصحاب القول الثاني:

    أدلتهم من القرآن

    استدلوا بآيات عديدة، منها قوله تعالى:

    "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" إلى قوله: "حتى تنكح زوجًا غيره" [البقرة: 228-230].

    ووجه الاستدلال أن قوله تعالى: "الطلاق مرتان" يشير إلى الطلاق الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة، كما يدل عليه قوله: "وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، مما يعني أن كل مرة من الطلاق تحسب طلقة واحدة، سواء صرّح بها الزوج مفردة أو جمعها في لفظ واحد.

    كما استدلوا بقوله تعالى:

    "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" [الطلاق: 1]، وقوله: "فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف" [البقرة: 231].

    واستنتجوا من هذه الآيات أن الطلاق المشروع هو الطلاق الذي يقع وفق السنّة النبوية، وأن جمع الطلقات الثلاث في لفظ واحد مخالف لهذا التوجيه، فلا يقع منه إلا ما كان مشروعًا، أي طلقة واحدة.

    أدلتهم من السنة

    استدلوا بما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

    "كان الطلاق في عهد رسول الله ﷺ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".

    ويرى هؤلاء العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يُغيّر الحكم الشرعي، وإنما شدّد في تطبيقه كإجراء تأديبي للحد من تهاون الناس بابالطلا

    كما استدلوا بحديث رُكانة بن عبد يزيد، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث جاء أن رُكانة طلّق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها، فسأله النبي ﷺ عن كيفية طلاقه، فلما أخبره أنه طلّقها ثلاثًا في مجلس واحد، قال له النبي ﷺ: "فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، فراجعها.

    ويُفهم من هذا الحديث أن النبي ﷺ لم يُوقع الطلاق الثلاث، وإنما اعتبره طلقة واحدة فقط.

  • ثالثاً: الطلاق الثلاث في مجلس واحد بلفظ واحد

    صورته:

    وذلك بأن يقول الزوج لزوجته: "أنتِ طالق بالثلاث" أو "أنتِ مطلقة ثلاثًا".

    مثاله:

    في لحظة غضب، قال الزوج: "أنتِ طالق بالثلاث".

    حكمه:

    القول الاول:

     رأي جمهور الفقهاء:

    يرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المشهور من مذهبهم أن من طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد، مثل قوله: "أنت طالق بالثلاث" أو "أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق"، فإن الطلاق يقع ثلاثًا، وتصبح الزوجة بائنًا بينونة كبرى، ولا تحل له إلا بعد أن تتزوج رجلًا آخر زواجًا صحيحًا، ويقع بينها وبينه جماع حقيقي ثم يطلقها أو يموت عنها.

    أدلة هذا القول:

    1. القرآن الكريم:

    قال تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ" [البقرة: 230].

    → استدلوا بأن هذه الآية عامة في وقوع الثلاث، سواء كانت متفرقة أو مجموعة في لفظ واحد.

    2. السنة النبوية:

    حديث امرأة رفاعة القرضي، حيث جاءت إلى النبي ﷺ وقالت:

    "يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه إلا مثل هدبة الثوب" (تشير إلى ضعفه في الجماع)، فقال لها النبي ﷺ:

    "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (متفق عليه).

    → يدل الحديث على أن الطلاق الثلاث يُعتبر بينونة كبرى، ولا يجوز الرجوع إلا بعد زواج جديد.

    3. إجماع الصحابة:

    قالوا إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته رأى أن الناس تهاونوا في الطلاق، فأمضى الطلاق الثلاث وألزمهم به، وقال:

     "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم" (رواه مسلم).

    → وهذا يدل على أن الصحابة أقرّوا وقوع الطلاق الثلاث دفعة واحدة.

    القول الثاني:

    الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة

    وهو مذهب ابن تيمية، وابن القيم، وابن عباس في إحدى الروايات عنه، وعطاء، وطاووس، وبعض التابعين، وهو رأي جماعة من العلماء المتأخرين إلى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يُحسب طلقة واحدة فقط، ويمكن للزوج أن يراجع زوجته ما دامت في العدة، أو يعقد عليها من جديد بعد خروجها منها.

    أدلة هذا القول:

    1. القرآن الكريم:

    قال تعالى: "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" [البقرة: 229].

    → استدلوا بأن الله جعل الطلاق على مرات، وليس دفعة واحدة، مما يعني أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يخالف هذا التدرج المشروع.

    2. السنة النبوية:

    حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

     "كان الطلاق في عهد رسول الله ﷺ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم" (رواه مسلم).

    → يدل على أن الطلاق الثلاث في عهد النبي ﷺ كان يُحسب واحدة، ولم يُعتبر ثلاثًا إلا بعد اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مما يعني أن الأصل بقاؤه على حكمه الأول.

    3. حديث أبي ركانة:

    روى الإمام أحمد بسند جيد أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها، فردها عليه النبي ﷺ وقال: "إنها واحدة".

    → يدل الحديث على أن النبي ﷺ لم يعتبر الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا، وإنما جعله طلقة واحدة.

    4. القياس والمقاصد الشرعية:

    الطلاق شرع لحل المشاكل الزوجية بالتدريج وليس بالقطع المفاجئ، واعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة يحقق التيسير ويحافظ على استقرار الأسر، خاصة أن كثيرًا من الناس يجهلون الأحكام الفقهية للطلاق.

    الترجيح بين القولين

    جمهور الفقهاء على أن الطلاق الثلاث يقع بلفظ واحد، وتحرم به الزوجة حتى تنكح غيره.

    بينما يرى بعض العلماء أنه يقع طلقة واحدة، مستدلين بعمل النبي ﷺ وأبي بكر رضي الله عنه.

    بعض المحاكم الشرعية الحديثة تأخذ بالرأي الثاني للتخفيف من حالات الطلاق المتسرع، خاصة في الأزمنة التي كثر فيها الجهل بأحكام الطلاق.

  • الخاتمة

    تبقى مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد من المسائل الفقهية التي وقع فيها خلاف قوي بين العلماء، ولكل قول أدلته. ومع ذلك، فإن القول باعتبار الطلاق الثلاث طلقة واحدة يتماشى مع مقاصد الشريعة في التيسير والرفق، خاصة أن كثيرًا من حالات الطلاق تقع دون معرفة بالأحكام الشرعية، مما يؤدي إلى ضياع الأسر وتشتيت الأطفال.