حكم تمني الموت والدعاء به على النفس

تعرّف على حكم تمني الموت والدعاء به في الإسلام، مع بيان الأدلة الشرعية من القرآن والسنة، وأقوال العلماء، وحالات الاستثناء المباحة، ونصائح عملية للتعامل مع الابتلاءات بما يحقق الرضا والصبر.

حكم تمني الموت والدعاء به على النفس
حكم تمني الموت والدعاء به في الإسلام
  • مقدمة: الابتلاء والرجاء بين الحياة والموت

    يتعرض الإنسان في حياته لأنواع من الابتلاءات والمصاعب قد تضعف معها النفس ويشتد معها الألم، فيتمنى المرء أن ينقضي أجله سريعًا للتخلص من مشقة الدنيا. إلا أنّ الإسلام بمنهجه المتوازن وضع ضوابط شرعية واضحة في مسألة تمني الموت والدعاء به، حيث فرّق بين المواقف الممنوعة والمواقف الجائزة، ووجه المؤمن إلى الأدعية المأثورة التي تحفظ إيمانه وتحقق له الخير في الدنيا والآخرة.

  • النصوص الشرعية في النهي عن تمني الموت

    النصوص الشرعية في النهي عن تمني الموت
    اللهم أحييني ما علمت الحياة خيرا لي

    وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنهى المسلم عن تمني الموت بسبب ضرّ دنيوي أو ابتلاء عارض، منها قوله ﷺ:

    «لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي»
    (رواه البخاري ومسلم).

    كما جاء في حديث آخر:

    «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه؛ إنّه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا»
    (رواه مسلم).

    هذه النصوص وضعت قاعدة شرعية مفادها أن المؤمن لا يجوز له الدعاء بالموت لمجرد مشقة أو ضيق، بل يطلب من الله الخيرة بين الحياة والوفاة.

  • الحكمة من النهي عن تمني الموت

    ذكر العلماء عدة علل لهذا النهي، أهمها:

    • الخوف من هول المطلع بعد الموت: حيث لا يدري الإنسان إلى ما يصير بعد وفاته؛ فلعلّه يستبدل ضره الدنيوي بضُرٍّ أشد في الآخرة.
    • انقطاع العمل الصالح: المؤمن كلما طال عمره ازداد فرصة للتوبة والعمل الصالح ورفع الدرجات.
    • ضعف الرضا بالقضاء: التمني بالموت قد يكون علامة على الاعتراض الضمني على قضاء الله أو ضعف الصبر على البلاء.
  • الحالات التي يُستثنى فيها التمني بالموت

    بيّن الفقهاء أن تمني الموت والدعاء به قد يكون جائزًا أو مشروعًا في حالات معينة، منها:

    1.   خوف الفتنة في الدين: إذا خشي المؤمن على دينه من الضلال أو الفتنة، جاز أن يسأل الله أن يتوفاه غير مفتون، كما في دعاء النبي ﷺ: «وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون».

    2.   طلب الشهادة في سبيل الله: كان الصحابة يتمنون الشهادة ويعرضون أنفسهم للجهاد طلبًا لرضا الله، وهذا من باب العمل الصالح لا من باب الجزع.

    3.   الشوق الصادق إلى لقاء الله: بعض الصالحين تمنوا الموت شوقًا إلى لقاء الله، لا لضر دنيوي، وهذا جائز عند طائفة من العلماء إذا كان نابعًا من المحبة لله.

  • الدعاء المشروع في حال الضيق والابتلاء

    علّمنا النبي ﷺ صيغة دعاء تحفظ للعبد الخير وتحقق الرضا بالقضاء:

    «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي»

    وفي رواية:

    «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي».

    هذه الصيغة تحقق التوكل على الله، وتبرأ من طلب الموت المباشر، وتجمع بين الأمل والخوف في آن واحد.

  • أقوال العلماء ومواقفهم في الدعاء على النفس بالموت

    1. ابن رجب الحنبلي

    • قال: «هذا جائز عند أكثر العلماء، وعلى هذا يحمل ما ورد عن السلف في تمني الموت؛ أنهم تمنّوه خوفًا من الفتنة».
    • وذكر أن تمني الموت خشية الفتنة جائز بلا خلاف، وقد دعا به الصحابة والصالحون.

    2. الإمام النووي

    • في شرح مسلم، عند حديث أنس: “لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به…”، قال النووي إن النهي يختصّ بما يتعلق بالضر الدنيوي كالمرض أو الفاقة، أما إذا خاف الإنسان فتنة أو ضررًا في دينه فلا كراهة في تمني الموت حينئذ.
    • في فتح الباري عن هذا الحديث، بيّن أن بعض السلف دعا تمني الموت خشية الفتنة، وأن الله أعلم بالحالة.

    3. ابن حجر العسقلاني

    • علق على حكم النهي بأنه من الحكمة تحذير من اعتراض على القدر أو ترغيب للجزع: “حكمة النهي … أن في طلب الموت قبل حلوله نوع اعتراض ومراغمة للقدر…”

    4. العلامة ملا علي القاري

    • أشار إلى أن النووي ذهب إلى أنه لا كراهة في تمني الموت لخشية الفتنة، بل إن بعض العلماء رده إلى مرتبة الرغبة أو الاستحباب في هذا المقام.
    • أن الشافعي وعمر بن عبد العزيز وغيرهم رخصوا في تمني الشهادة والموت ببلد شريف لما ورد في بعض الأحاديث.

    5. الشيخ عبدالعزيز بن باز

    • قال صراحة في فتوى: “طلب الموت يا أخي لا يجوز، ولا يجوز تمنيه أيضًا”، مستندًا إلى الحديث “لا يتمنَّن أحدكم الموت لضر نزل به …”

    6. الشيخ ابن باز في فتاواه

    • في فتاوى “مجموع الفتاوى” عند حديث تمني الموت، بيّن أن الدعاء بأن تكون الحياة خيرة والوفاة خيرة هو الصيغة المأمورة، ولا يجوز الدعاء بالموت المباشر للمصاب بضرّ دنيوي.

    7. أهل المذاهب الفقهية الأربعة

    • في المطلب الفقهي المعنون “حكم الأنين وتمني الموت” في موسوعة دُرَر الفقهية ذُكِر أن جميع المذاهب الأربعة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة) اتفقوا على أن تمني الموت للضر نزل به مكروه، بينما الخلاف يبرز في جواز تمني الموت لخوف الفتنة في الدين.

    خلاصة أقوال العلماء

    • معظم العلماء يرون أن تمني الموت بسبب ضرّ دنيوي (مرض، فقر، أزمة، ضيق) مكروه أو ممنوع، مستندين إلى النصوص النبوية التي تنهى عن ذلك، ومن بينها الحديث: «لا يتمنَّن أحدكم الموت لضرٍّ نزل به…»
    • لكن في حالات خوف الفتنة في الدين أو انحراف العقيدة أو حفظ الدين، يرى بعض العلماء مثل النووي، وابن رجب، والشيخ عبدالبازي، وملا علي القاري أن تمني الموت يُستثنى من الكراهة، وقد يكون جائزًا أو مستحبًا في هذا السياق.
    • كما رخصوا أيضًا في تمني الشهادة في سبيل الله بناءً على السُنة التي وردت في هذا الباب.
    • العلماء يربطون بين النهي وبين الحكمة في منع الجزع أو الاعتراض على القضاء، وكذلك الحفاظ على فرص العمل الصالح والاستقامة، وعدم استباق الموت بغير حكمة.
  • نصائح عملية للمؤمن في مواجهة الشدائد

    • التعلق بالله بالدعاء والذكر: اللجوء إلى الأدعية المأثورة والقرآن الكريم لتثبيت القلب.
    • الصبر والاحتساب: استحضار الأجر والثواب على الابتلاء لتخفيف أثره النفسي.
    • العمل الصالح: استثمار العمر المتبقي في الطاعات بدلًا من الانشغال بتمني الموت.
    • طلب الدعم النفسي والاجتماعي: الاستعانة بالأصدقاء الصالحين والمربين والمختصين لتجاوز الأزمات النفسية.
    • الموازنة بين الأمل والرضا: إيمان المؤمن بأن كل ما يجري عليه هو لحكمة، فيطمئن قلبه ويستسلم لتدبير الله.
  • الموقف الشرعي المتوازن

    إن الإسلام لا يغلق باب الرجاء ولا يترك المؤمن وحيدًا في مواجهة المحن؛ فقد وجّهنا إلى الصبر والاحتساب والدعاء المأثور بدلًا من الدعاء بالموت. والأصل أن طول عمر المؤمن خير له، إذ يزيد في عمله الصالح ويضاعف فرص التوبة. أما في حالات خوف الفتنة في الدين أو طلب الشهادة أو الشوق الصادق إلى لقاء الله، فقد رخص العلماء في التمني أو الدعاء بالموت.

    فلنحرص على الالتزام بالهدي النبوي، ونُكثر من الدعاء:

    «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي».