عقيدة الأشاعرة في مسألة العلو ومخالفتهم لمذهب السلف

تعرف في هذا المقال التفصيلي على عقيدة الأشاعرة في مسألة العلو، وموقف الإمام أبي الحسن الأشعري من استواء الله تعالى على العرش، مع بيان مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات العلو، وشرح موقف الماتريدية، بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.

عقيدة الأشاعرة في مسألة العلو ومخالفتهم لمذهب السلف
عقيدة الأشاعرة في مسألة العلو
  • مقدمة

    تُعدّ مسألة العلو من المسائل الجوهرية في باب العقيدة الإسلامية، إذ ترتبط بإثبات صفة الاستواء على العرش وعلو الله تعالى على خلقه، وهي مسألة خالف فيها الأشاعرة أهل السنة والجماعة في مفهوم العلو وإثباته، رغم أن أصلها منصوص عليه في الكتاب والسنة وإجماع السلف.

  • مفهوم العلو ومكانته في العقيدة

    العلو من صفات الله الثابتة في النصوص الشرعية، وقد دلّ عليه القرآن والسنة دلالة واضحة. يقول الله تعالى:

    ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]
    ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]
    ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: 16]

    وأثبت النبي ﷺ ذلك في قوله:

    «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة»
    رواه مسلم (537).

    وهذا يدل على أن الله تعالى فوق خلقه مستوٍ على عرشه، استواءً يليق بجلاله، من غير تكييف ولا تمثيل.

  • مذهب أهل السنة والجماعة في العلو

    أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه.

    قال الإمام الذهبي في العلو للعلي الغفار (ص 268):

    "والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة، وقالوا ذلك رادّين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان".

    وقال ابن عبد البر في التمهيد (7/131):

    "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك".

    فمذهبهم إثبات علو الذات والفعل، وأن الله فوق العرش بذاته، عالٍ بقدرته وسلطانه، لا يحويه مكان ولا يحده زمان.

  • مذهب الأشاعرة في العلو

    1. موقفهم العام

    الأشاعرة ينفون علو الذات، ويقولون إن الله ليس في جهة ولا فوق العرش بذاته، لأن الجهة في نظرهم من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن الجسمية والحدود.

    قال إمام الحرمين الجويني في الإرشاد (ص 58):

    "إن من قال إن الله في جهة، فهو جاهل بربه؛ لأن الجهات من صفات الأجسام، والله منزه عن ذلك".

    وقال الفخر الرازي في التفسير الكبير (10/127):

    "القائلون بأن الله في جهة الفوق قولهم باطل؛ لأن الجهة تستلزم الحد والتمكن، وذلك محال على الله تعالى".

    فهم يؤمنون بأن الله موجود بلا مكان، ويفوضون أو يؤولون النصوص الدالة على العلو.

    2. تأويل الاستواء عندهم

    أول الأشاعرة قوله تعالى:

    ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
    بأنه بمعنى استولى.

    قال البيضاوي في أنوار التنزيل (1/221):

    "الاستواء على العرش كناية عن الملك والسلطان، لا عن الجلوس والاستقرار، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً".

    وقال السنوسي في شرح العقيدة الكبرى (ص 120):

    "الاستواء معناه الاستيلاء والقهر، لأن الاستقرار والتمكن لا يجوزان في حق الله تعالى".

  • موقف الإمام أبي الحسن الأشعري

    الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) لم يكن على هذا الرأي في آخر أمره، بل رجع إلى مذهب السلف وأثبت العلو والاستواء على العرش بلا تأويل.

    قال في الإبانة عن أصول الديانة (ص 108):

    "قد قال قائلون من المعتزلة والجهمية: إن معنى قوله تعالى: (استوى) أي استولى، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله مستوياً على عرشه كما قال أهل الحق... فلو كان استواؤه استيلاءً لكان مستوياً على الحشوش والأرض والأقذار، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً".

    وقال في (ص 112):

    "فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشه، استواءً منزهاً عن الحلول والاتحاد".

    وبذلك يظهر أن الأشعري نفسه من أهل الإثبات، وأن القول بنفي العلو إنما ظهر عند بعض أتباعه المتأخرين.

  • مذهب أبي منصور الماتريدي

    أبو منصور الماتريدي (ت 333هـ) وافق الأشاعرة المتأخرين في نفي علو الذات، مع تفويض معنى الاستواء.

    قال في تأويلات أهل السنة (6/514):

    "الفوق والتحت لا يفيدان في حق الله فضلاً ولا شرفاً، لأن ذلك يختص بالمكان، والله منزه عن المكان والمجلس".

    وقال في كتاب التوحيد (ص 69):

    "الأصل أن الله كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، جل عن التغير والزوال".

    فهو لا يقول بأن الله في كل مكان، ولكنه ينفي العلو المكاني ويفوض المراد من النصوص.

  • مناقشة مذهب الأشاعرة والماتريدية

    نقد العلماء هذا المذهب لعدة أسباب:

    1.   مخالفته لصريح النصوص التي أثبتت علو الله تعالى.

    2.   رفع النقيضين بقولهم "ليس داخل العالم ولا خارجه"، وهو قول باطل عقلاً.

    3.   عدم وجود سلف صالح قال بهذا النفي المجرد.

    قال الذهبي في العلو للعلي الغفار (ص 268):

    "أما القول الثالث المتولد أخيراً من أنه تعالى ليس في الأمكنة ولا خارجاً عنها... فهذا شيء لا يعقل، مع مخالفته للآيات والأخبار".

    وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (1/444):

    "ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من سلف الأمة أن الله ليس فوق العرش أو أنه ليس في السماء".

  • خلاصة المقارنة

    المسألة

    مذهب أهل السنة والجماعة

    مذهب الأشاعرة

    مذهب الماتريدية

    العلو على العرش

    يثبتونه حقيقة بلا تمثيل

    ينفونه ويؤولونه بالاستيلاء

    ينفونه ويفوضون المعنى

    الجهة والمكان

    الله بائن من خلقه

    ينفون الجهة مطلقاً

    ينفون المكان والجهة

    الاستواء

    صفة فعل حقيقية

    مجاز عن الملك والسلطان

    تفويض بلا تفسير

    القول بأن الله في كل مكان

    كفر صريح

    باطل عندهم

    باطل عندهم أيضاً

  • الخاتمة

    تُظهر الدراسة أن الأشاعرة خالفوا أهل السنة والجماعة في إثبات علو الذات لله تعالى، فأنكروا أن يكون الله فوق العرش بذاته، بينما أثبت السلف هذه الصفة على حقيقتها دون تمثيل أو تكييف.

    كما أن الإمام الأشعري نفسه رجع إلى مذهب السلف في آخر حياته وأثبت علو الله تعالى كما في كتابه الإبانة. أما الماتريدية فقد ساروا على طريقة التفويض ونفي الجهة، دون القول بالحلول أو الاتحاد، بخلاف غلاة الصوفية كابن عربي.

    فالمسألة إذًا ليست اختلافًا في الألفاظ، بل هي اختلاف في المنهج العقدي بين مدرسة السلف ومدرسة الكلام، الأولى تثبت النصوص على ظاهرها، والثانية تؤوّلها بالعقل والنظر.

  • المصادر والمراجع

    • أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة.
    • أبو منصور الماتريدي، كتاب التوحيد وتأويلات أهل السنة.
    • الذهبي، العلو للعلي الغفار.
    • ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية.
    • الجويني، الإرشاد.
    • البيضاوي، أنوار التنزيل.
    • السنوسي، شرح العقيدة الكبرى.
    • ابن عبد البر، التمهيد.