الإذن بالذكر عند الصوفية: المفهوم، الجذور، والحكم الشرعي

تعرف في هذا المقال على مفهوم الإذن بالذكر عند الصوفية، وأصوله التربوية، ورأي العلماء في حكمه الشرعي، مع توضيح الفرق بين الذكر المشروع والاجتهادات الطرقية.

الإذن بالذكر عند الصوفية: المفهوم، الجذور، والحكم الشرعي
الإذن بالذكر عند الصوفية
  • مقدمة

    يمثّل الذكر أحد أهم أبواب تزكية النفوس وتهذيب القلوب، وقد أثنى الله تعالى على الذاكرين في مواضع عديدة من القرآن الكريم، قال تعالى:
    ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]،
    وقال سبحانه:
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41].

    ومع رسوخ مكانة الذكر في الإسلام، نشأت لدى المتصوفة منظومة روحية خاصة تقوم على “الإذن بالذكر”. وقد أثار هذا المفهوم جدلاً فقهيًا واسعًا بين مؤيديه وناقديه. وتقدّم هذه المقالة دراسة متوازنة للمفهوم وجذوره وأبعاده، مع بيان الحكم الشرعي وفق مذاهب العلماء.

  • ما هو الإذن بالذكر عند الصوفية؟

    1. التعريف

    الإذن بالذكر هو:
    تفويض يصدر من الشيخ أو المربّي الروحي إلى المريد، يسمح له فيه بممارسة ذكر معين، بعد تقييم حاله الروحي واستعداده، وتحديد العدد والطريقة المناسبة له.

    يُنظر لهذا الإذن بوصفه امتدادًا لمعنى “الإجازة” في علوم القرآن والحديث، لا بمعنى الوجوب، وإنما بوصفه نظامًا تربويًا ينظم سير المريد في الطريق.

    2. الجذور التاريخية للمفهوم

    ينطلق الصوفيون في الإذن من ثلاثة جذور أساسية:

    أولًا: الإرث التربوي الإسلامي

    اعتمد العلماء عبر العصور على نقل العلوم بالسند، سواء في الحديث أو القراءات أو الفقه. واستعار المتصوفة هذا المبدأ في الجانب الروحي، معتبرين أن الذكر وسيلة تزكية تحتاج إلى تدرّج وانضباط.

    ثانيًا: مراعاة أحوال السالكين

    يرى شيوخ الطرق أن الناس يختلفون في:

    • قوة النفس،
    • مستوى الالتزام،
    • القدرة على المواظبة،
    • والاستعداد الروحي.

    وبناءً على ذلك، يتعاملون مع الذكر كتدريب روحي “شخصي”.

    ثالثًا: التراث الطرقي

    تطورت فكرة الإذن عبر القرون داخل الطرق الصوفية الكبرى (القادرية، الشاذلية، النقشبندية، وغيرها)، حتى أصبحت أحد أهم مفاصل “الانتساب الروحي” للشيخ والطريقة.

  • كيف تُمنح أذون الذكر؟

    1. تقييم الشيخ لحال المريد

    يعتمد الشيخ على رؤية شاملة تشمل:

    • التزام المريد بالشريعة،
    • استقامته الظاهرة،
    • صدقه في الطلب،
    • قدرته على المواظبة.

    2. تحديد نوعية الذكر

    من أشهر الأذكار التي تُمنح بإذن:

    • لا إله إلا الله (ذكر التوحيد)
    • الصلاة على النبي ﷺ
    • الاستغفار
    • التسبيح والتحميد والتهليل

    3. تحديد العدد

    الأعداد تختلف بين الطرق، وتُبنى غالبًا على:

    • اجتهادات روحية،
    • أو قياسات تربوية،
    • أو استقراء للتجربة الصوفية.

    ولا يستند ذلك إلى نص ملزم، بل إلى اجتهادات تربوية داخل البيئة الصوفية.

  • المبررات التي يقدمها المتصوفة لمفهوم الإذن بالذكر

    1. ضبط المنهجية الروحية

    يشبهون الإذن بعملية “التوجيه المهني” في الإدارة الحديثة؛ إذ يساعد على:

    • تنظيم الطريق،
    • تجنب التشتت،
    • منع الانحراف إلى مسارات غير منضبطة.

    2. تجنب المشقة

    بعض الأذكار المكثفة قد لا يحتملها المبتدئ، فوجود شيخ يحدد له القدر المناسب يساعد على الاستدامة.

    3. توارث السند الروحي

    يرى المتصوفة أن الإذن يمثل “خط تواصل” عبر أجيال من الصالحين، بما يعزز الجانب الروحي والنفسي للمريد.

    4. بناء الانضباط والالتزام

    وجود شيخ يراقب ويقيم يجعل المريد أكثر التزامًا بالذكر الذي عاهد عليه.

  • رؤية العلماء المنتقدين لفكرة الإذن بالذكر

    1. الذكر عبادة مفتوحة بنصوص الشرع

    الأصل في الذكر أنه مشروع مطلقًا، قال تعالى:
    ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [الأحزاب: 35].

    ولا تُشترط فيه إذن من بشر.

    2. عدم وجود دليل من السنة

    لم يثبت عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة أنهم اشترطوا إذنًا لذكر معيّن.
    والأحاديث الصحيحة تحث على الذكر مطلقًا دون وساطة، مثل قوله ﷺ:
    «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ»
    – رواه مسلم.

    3. التحذير من أن يتحول الإذن إلى سلطة روحية

    بعض العلماء يخشون أن يؤدي الإذن إلى:

    • تعظيم الأشخاص،
    • أو جعل الذكر محصورًا بطائفة،
    • أو نشوء تبعية غير منضبطة.

    4. رفض الأعداد غير المنصوص عليها إن قُدمت بوصفها “عبادة”

    الأذكار المنصوصة لها عدد محدد، أما اجتهادات الأعداد فلا تُرفض في ذاتها، لكن تُرفض إذا نُسبت إلى الشرع.

  • حكم الإذن بالذكر في ميزان الفقه الإسلامي

    1. حكم الذكر بلا إذن

    الذكر مشروع للجميع، بلا شرط ولا إذن.
    من ترك الإذن لم يترك سنة، ومن التزم به لا يزيد في الشرع، لأن الذكر عبادة غير مؤطرة بوساطة بشرية.

    2. حكم طلب الإذن عند الصوفية

    أجمع العلماء على أن الإذن ليس واجبًا شرعًا.
    أما من الناحية التربوية، فيراه المتصوفة مستحبًّا لتنظيم السلوك، شرط:

    • ألا يعتقد المريد أنه واجب،
    • وألا يُنسب للشرع أصلٌ لم يرد فيه نص.

    3. حكم التقييد بالأعداد

    – إذا كان العدد منصوصًا شرعًا فهو سنة.
    – وإذا لم يكن منصوصًا فهو اجتهاد تربوي، يجوز العمل به إن لم يُنسب للنص.

    4. متى يصبح الإذن بدعة؟

    يصبح الإذن بدعة إذا:

    • اعتُقد أنه شرط لصحة الذكر،
    • أو نُسب إلى الشرع بغير دليل،
    • أو نتج عنه غلو في الأشخاص أو الطرق.
  • الفاصل بين المشروع والممنوع في الإذن

    المشروع

    • أن يكون الإذن تنظيمًا تربويًا داخل بيئة صوفية.
    • أن لا يُشترط على الناس عمومًا.
    • أن لا يُعتقد أنه عبادة مستقلة.
    • أن يبقى في إطار “الإرشاد” لا “الشرط”.

    الممنوع

    • القول بأن الذكر لا يصح إلا بإذن.
    • ربط الأعداد بحكم شرعي لم يرد به دليل.
    • ادعاء أن للإذن تأثيرًا ذاتيًا في قبول الذكر.
    • الغلو في الشيخ واعتقاد الوساطة.
  • لماذا يختار بعض الناس الإذن بالذكر رغم عدم لزومه؟

    من خلال التحليل النفسي والاجتماعي، نجد خمسة دوافع رئيسية:

    1.    الحاجة للتوجيه والانضباط الروحي
    البعض يجد صعوبة في المواظبة منفردًا.

    2.    الانسجام مع مجتمع روحي متماسك
    الطرق الصوفية تقدم بيئة دعم مستمرة.

    3.    الشعور بالهوية الروحية
    الإذن يمثل “انتماءً” داخل الطريقة.

    4.    طلب الخبرة والتجربة
    وجود شيخ مخضرم يراقب تقدم المريد يوفر “تغذية راجعة”.

    5.    الأثر النفسي الإيجابي
    الكثير يشعر بأن تنظيم الذكر يعزز الطمأنينة.

  • الخلاصة

    ·        الذكر مشروع مطلق لكل مسلم دون شرط أو وساطة.

    ·        الإذن بالذكر عند الصوفية تقليد تربوي وليس حكمًا شرعيًا.

    ·        يجوز العمل بالإذن إذا:

      • لم يُعتقد وجوبه،
      • ولم يُنسب للشرع،
      • وكان ضمن إطار تربوي منضبط.

    ·        يتحول الإذن إلى بدعة إذا قُدّم بوصفه شرطًا دينيًا أو وساطة بين العبد وربه.

    ·        النقاش حول الإذن هو نقاش تربوي–فقهي وليس خلافًا في أصل الذكر.