حكم طلاق السكران في الإسلام
تعرف على حكم طلاق السكران في الفقه الإسلامي، مع عرض أقوال المذاهب الأربعة والأدلة الشرعية، وبيان القول الراجح عند العلماء كابن تيمية وابن القيم، وهل يقع طلاق السكران إذا كان فاقد العقل؟

-
مقدمة
الطلاق من أعظم العقود الشرعية التي رتّب الله تعالى عليها أحكاماً تمسّ كيان الأسرة والمجتمع، ولذلك لم يُترك أمره للاجتهادات الفردية أو العواطف المنفلتة، بل قُيِّد بشروط وضوابط تحفظ الحقوق وتمنع الفوضى. ومن أكثر المسائل إثارة للجدل الفقهي مسألة حكم طلاق السكران؛ إذ يختلط فيها جانب التكليف الشرعي بالمسؤولية الأخلاقية والعقوبة الدنيوية. فهل يقع طلاق الرجل إذا نطق به وهو في حالة سُكرٍ أفقدته وعيه؟ أم أن فقدانه للعقل يجعله في حكم المجنون فلا يُعتد بأقواله؟
هذه المقالة تسعى إلى بيان آراء المذاهب الفقهية والأدلة الشرعية، وذكر الراجح من أقوال العلماء، مع توضيح البعد الاجتماعي والشرعي لهذه القضية.
-
تعريف السكران وحكم الشرع في فعله
- السكران لغةً: من غاب عقله بسبب تناول ما يُذهب التمييز.
- شرعاً: هو من تغيّر وعيه بسبب شرب الخمر أو ما في معناها من المسكرات، فلا يميّز بين الصواب والخطأ.
وقد جاء في القرآن الكريم التحذير الصريح من شرب الخمر:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]
فشرب الخمر كبيرة من الكبائر توجب العقوبة في الدنيا (الجلد) والوعيد الشديد في الآخرة، وقد قال النبي ﷺ:
"من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" [رواه مسلم].
- السكران لغةً: من غاب عقله بسبب تناول ما يُذهب التمييز.
-
محل النزاع في طلاق السكران
اختلف العلماء في وقوع الطلاق الصادر من السكران إذا كان سكره بغير عذر، كمن شرب الخمر مختاراً عالماً بتحريمها، أما إذا كان معذوراً بسكره كمن أُكره على الشرب أو شرب دواءً لا يعلم أنه مسكر، فباتفاق الفقهاء لا يقع طلاقه، لأنه غير مسؤول عن فقدانه للعقل.
-
أقوال الفقهاء في حكم طلاق السكران
1- القول الأول: وقوع طلاق السكران
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن طلاق السكران يقع، إذا كان هو الذي أدخل على نفسه السكر باختياره.
- تعليلهم: أن زوال عقله كان بسبب معصية منه، فوجب مؤاخذته بها، ويُعدّ طلاقه نافذاً زجراً له وردعاً لغيره.
- استدلالهم بالقرآن: قوله تعالى:
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]
قالوا: هذا نص عام يشمل السكران وغيره.- قياساً: ألحقوه بالمكلّف العاقل؛ لأنه هو الذي جلب على نفسه هذا الحال، فلا يُعذر.
2- القول الثاني: عدم وقوع طلاق السكران
ذهب فريق آخر من الفقهاء، ومنهم بعض الحنفية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد والظاهرية، إلى أن طلاق السكران لا يقع، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبه قال من المعاصرين ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله.
- استدلالهم بالقرآن:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]
قالوا: دلّت الآية على أن كلام السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول.- استدلالهم بالسنة: في قصة ماعز حين أقر بالزنا، سأل النبي ﷺ: "أشرب خمراً؟"، فلو كان سكراناً لما اعتبر النبي ﷺ إقراره.
- من الآثار: قول عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ليس لمجنون ولا لسكران طلاق"، وقال ابن عباس: "طلاق السكران والمستكره ليس بجائز".
- التعليل: أن السكران فاقد للعقل، فكان كالمجنون والنائم، والنية شرط في الطلاق لقوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات".
- تعليلهم: أن زوال عقله كان بسبب معصية منه، فوجب مؤاخذته بها، ويُعدّ طلاقه نافذاً زجراً له وردعاً لغيره.
-
الترجيح بين القولين
بعد عرض الأدلة، يظهر أن القول الثاني أقوى وأقرب إلى قواعد الشريعة، لأن:
1. العقل شرط أساسي للتكليف، ولا يُتصور ترتيب الطلاق على قول من لا يعلم ما يقول.
2. النصوص والآثار تؤيد بطلان تصرفات السكران القولية، بينما تبقى أفعاله الجسدية مؤاخذاً بها (كالقتل والسرقة).
3. عقوبة السكران الشرعية هي الجلد، ولا يصح أن يُزاد عليها بإبطال عقد الزواج وإلحاق الضرر بالأسرة.
ولهذا رجح ابن تيمية وابن القيم وغيرهما أن طلاق السكران لا يقع، وهو ما أفتى به عدد من العلماء المعاصرين.
-
التطبيقات العملية لمسألة طلاق السكران
1. إذا طلق الرجل وهو في حالة سكر شديد أذهب عقله: لا يقع طلاقه، ويظل الزواج قائماً.
2. إذا كان سكره يسيراً لم يذهب معه الإدراك تماماً: وقع طلاقه عند كثير من الفقهاء، لأن كلامه يُفهم ويُقصد.
3. في حال الإكراه أو شرب دواء مسكر دون علمه: لا يقع الطلاق اتفاقاً.
4. توجيه للمجتمع: الواجب على الزوج أن يحذر من شرب الخمر، فإنها سبب خراب الدين والدنيا، وقد تؤدي إلى هدم أسرته بكلمة لا يعي معناها.
-
البعد الاجتماعي والنفسي
- إن إبطال طلاق السكران لا يعني التهوين من شرب الخمر، بل هو رحمة بالأسرة حتى لا تنهار بسبب كلمة صدرت في حال غياب العقل.
- على الزوجين أن يدركا أن الشريعة جمعت بين حفظ الدين وحماية الأسرة، فشرعت العقوبة على شرب الخمر، ومنعت في الوقت ذاته أن يكون الطلاق وسيلة تدمير في لحظة غياب العقل.
- إن إبطال طلاق السكران لا يعني التهوين من شرب الخمر، بل هو رحمة بالأسرة حتى لا تنهار بسبب كلمة صدرت في حال غياب العقل.
-
خاتمة
يتبين مما سبق أن مسألة حكم طلاق السكران من القضايا التي اجتهد فيها العلماء، فذهب الجمهور إلى وقوعه، بينما رجح المحققون من أهل العلم عدم وقوعه إذا كان فاقداً للوعي. والراجح أن الطلاق لا يقع متى ثبت ذهاب العقل بالسُكر، لأن التكليف مشروط بالوعي، وقد جاء الشرع برفع القلم عن المجنون حتى يفيق.
وعليه، فإن المسلم العاقل يجب أن يجتنب الخمر وسائر المسكرات، فهي أصل البلاء وباب الفوضى والاضطراب الأسري، قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]
فالواجب هو التوبة الصادقة من شرب الخمر، وحماية الأسرة من التصدع بسبب كلمة غير واعية، والله تعالى أعلم.