قصة قوم سبأ: من شكر النعمة إلى التفرق والضياع
قصة قوم سبأ كما وردت في القرآن الكريم توضح كيف يؤدي كفر النعمة إلى زوالها. تعرف على تفاصيل القصة من النعيم إلى الدمار، وسر سيل العرم، والدروس التي نأخذها من مصيرهم، مع أدلة قرآنية ونبوية موثوقة.

-
مقدمة
في خضم قصص القرآن العظيم، تبرز قصة قوم سبأ كواحدة من أروع القصص التي تسلط الضوء على العلاقة بين شكر النعمة ودوامها، وبين كفر النعمة وزوالها. وقد جعل الله هذه القصة آية باقية على مر العصور، ليعتبر بها الناس ويتدبروا سنن الله في خلقه.
قال الله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾ [سبأ: 15].
فهذه الآية تفتح الباب أمامنا للتأمل في تاريخ قومٍ عاشوا في رفاه ورغد، ثم انقلب حالهم بسبب الجحود، فتفرقت جماعتهم وتبددت قوتهم. -
من هم قوم سبأ؟
سبأ هو اسم قبيلة عربية عريقة كانت تسكن في جنوب الجزيرة العربية، وتحديدًا في اليمن. وقد نُسبوا إلى رجل يُدعى "سبأ بن يشجب بن يعرب"، وهو أول من سنَّ للعرب سبي الغنائم، وكانت له هيبة ومُلك وسلطان.
وقد ذكر الله - عز وجل - قوم سبأ في سورة سُميت باسمهم، وهي سورة سبأ، لما تحمل قصتهم من دلالات عظيمة. وكانوا يعيشون في بلدة "مأرب"، حيث قامت حضارة عظيمة، واشتهرت بسد مأرب الشهير الذي جمع المياه وسقى البلاد، فأثمرت أراضيهم ثمارًا وفيرة.
-
نعم الله على قوم سبأ
لقد أنعم الله على قوم سبأ بنعم لا تُعدّ ولا تُحصى، فقد عاشوا في:
- بلدة طيبة: أي طقس معتدل، وهواء نقي، وتربة خصبة.
- رب غفور: أي أن الله فتح لهم باب التوبة، ولم يعاجلهم بالعقوبة رغم معاصيهم.
- أمن واستقرار: فلا عدو يهددهم، ولا جوع يفتك بهم.
- طريق آمن وسهل بين المدن: حيث كانت القرى متقاربة، لا يحتاج المسافر إلى حمل الزاد أو الخوف من اللصوص.
قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ [سبأ: 15].
ثم قال بعدها مباشرة:
﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾. - بلدة طيبة: أي طقس معتدل، وهواء نقي، وتربة خصبة.
-
الإعراض عن الشكر: بداية الانهيار
رغم كل هذا الرخاء، لم يُقابل قوم سبأ هذه النعم بالشكر، بل أعرضوا عن الله، وتمادوا في الغفلة، بل وتمنوا زوال النعمة!
قال الله - تعالى - عنهم:
﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ ﴾ [سبأ: 16].
وسيل العرم هو سيل مدمر نجم عن انهيار سد مأرب الشهير، فغمرت المياه بيوتهم، واجتثت زراعتهم، وبدّلت جناتهم المثمرة إلى نباتات شوكية لا تُؤكل.ثم قال تعالى:
﴿ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 16].
فأين النخيل والرمان والعنب؟ لقد تغير كل شيء بسبب كفرهم بالنعم. -
سبب هلاك قوم سبأ
لقد تلخّص سبب هلاكهم في كلمة واحدة: الكفر. قال تعالى:
﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17].قال ابن كثير - رحمه الله -: "كفروا بأنعم الله، ولم يشكروه، فجازاهم بأن زالت عنهم النعم، وتبدلوا من حالٍ إلى حالٍ".
فلا أحد يُجاري سنن الله، ولا أمة تبقى على ما هي عليه إن هي كفرت بالله أو بطرَت نعمه.
-
العاقبة: تفرق وتشتت
بعد السيل، لم يعودوا كما كانوا، بل تفرّقوا وتشتّتوا في الأرض، حتى صاروا أمثلة للضياع، يُقال في المثل العربي: "تفرّقوا أيدي سبأ".
وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ، فقال: «هو رجل وُلِد له عشرة من العرب، فتوزعوا في البلاد».
فصاروا قبائل متفرقة، لا رابط يجمعهم، بعد أن كانوا مملكة عظيمة مزدهرة. -
دروس وعبر من قصة قوم سبأ
1. شكر النعمة سبب دوامها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أُعطي خيرًا فلْيحمد الله، ومن وُقي شرًا فلْيحمد الله، ومن رأى في ذلك غير ذلك فقد كفر النعمة» [رواه أحمد].2. كفر النعمة سبب زوالها: فالله لا يظلم أحدًا، ولكن الناس يظلمون أنفسهم.
3. الرضا بالقضاء والقدر واجب: فحين ضاقت عليهم الأرض بعد النعمة، لم يصبروا، بل تمادوا في الشكوى والتذمر.
4. عدم الغرور بالرخاء: فإن الرخاء قد يُلهي الإنسان عن شكر المنعم، فيكون سببًا في هلاكه.
5. التدبر في قصص القرآن عبادة: فقد قال الله - تعالى - في آخر القصة:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19].
أي أن من يقرأ القصة بقلبٍ واعٍ، يُدرك أن الصبر على الطاعة، وشكر النعم، هما مفتاح الفلاح. -
شبه قصة سبأ في الواقع
تتشابه قصة قوم سبأ مع كثير من الأمم عبر العصور، الذين عاشوا في رفاه، فلما أعرضوا عن الله، سلّط عليهم الفقر أو الفتن أو الاحتلال. والقرآن ليس قصة ماضية فحسب، بل هو مرآة لكل زمان.
قال تعالى:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ [النحل: 112]. -
خاتمة
إن قصة قوم سبأ ليست حكاية للتسلية، بل رسالة إلهية تحذيرية، ترسم لنا طريق السعادة والبقاء، وتحذرنا من طريق الهلاك والشقاء.
فمن شكر نعم الله، زاده الله بركة، ومن أعرض عنها، نال جزاءه، قال الله تعالى:
﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].فلنتأمل، ولنشكر، ولنأخذ العبرة... قبل أن نكون نحن "سبأ" أخرى في سجل الهالكين.