حكم المسح على الجورب الرقيق في الوضوء

تعرف في هذا المقال على الحكم الفقهي للمسح على الجورب الرقيق، مع عرض مفصل لأقوال العلماء، وتوضيح حكم الجوارب الشفافة وغير الشفافة، وأقوال الشيخ ابن عثيمين، وما هو الأحوط للمسلم في الوضوء.

حكم المسح على الجورب الرقيق في الوضوء
حكم المسح على الجورب الرقيق في الوضوء
  • مقدمة

    يُعدّ المسح على الجوارب من الرخص الفقهية التي شرعتها الشريعة الإسلامية تخفيفًا وتيسيرًا على المسلمين، وقد ثبتت مشروعيته بالأحاديث الصحيحة المتواترة عن النبي ﷺ. لكن مع تطور الزمن وتعدد أنواع الجوارب واختلاف خاماتها، برزت أسئلة فقهية جديدة حول مشروعية المسح على الجوارب الرقيقة، وهل يشملها الحكم العام للجوارب أم تُستثنى منه بسبب صفاتها؟ تتناول هذه المقالة عرضًا تفصيليًا لأقوال العلماء في المسألة، وتوضيح مناط الخلاف وأدلته، مع التوجيه لما هو أولى بالاتباع.

  • تعريف الجورب الرقيق

    الجورب الرقيق هو ما يُصنع من خامة خفيفة غير سميكة، وقد تنقسم أنواعه إلى قسمين:

    1.   رقيق غير شفاف: أي أنه رقيق الملمس لكنه لا يُظهر لون البشرة من خلفه.

    2.   رقيق شفاف: يُظهر لون الجلد من خلفه بحيث تُرى البشرة بوضوح.

    وهذا التفصيل له أثر كبير في اختلاف الحكم الفقهي، كما سنبيّن لاحقًا.

  • مشروعية المسح على الجورب في الجملة

    أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين، وثبت ذلك في السنة المتواترة، ومنها قول النبي ﷺ:

    «إن الله عز وجل رخص للمسافر ثلاثًا، وللمقيم يومًا وليلة في المسح على الخفين»
    [رواه مسلم]

    وقد ثبت أيضًا المسح على الجوارب عن الصحابة، حيث قال الإمام النووي:

    "وأما الجورب: فإن كان صفيقًا يُمكن متابعة المشي عليه، ويمنع نفوذ الماء إلى القدم، فحكمه حكم الخف، ويجوز المسح عليه بلا خلاف عندنا."

    لكن الخلاف وقع في الجورب غير الصفيق (الرقيق)، وهنا بدأت الاجتهادات الفقهية تتباين.

  • أقوال الفقهاء في المسح على الجورب الرقيق

    1. القول بجواز المسح على الجورب الرقيق

    ذهب إلى هذا بعض السلف، منهم:

    • عمر بن الخطاب رضي الله عنه
    • علي بن أبي طالب رضي الله عنه
    • ومن أئمة المذاهب: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري

    وقد نقله الإمام النووي في المجموع فقال:

    "وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقًا."

    بل قال الإمام ابن حزم الأندلسي في المحلى:

    "المسح جائز على كل ما لبسه الإنسان في قدمه من صوف أو كتان أو قطن أو جلد أو خشب أو حديد أو خزّ، إذا سُمي جوربًا أو خفًّا."

    2. القول بعدم الجواز على الرقيق الشفاف

    ذهب جمهور العلماء إلى أن المسح لا يصح على الجورب الرقيق الذي لا يستر البشرة أو لا يُمكن متابعة المشي عليه، واشترطوا شروطًا ثلاثة:

    • أن يكون ثخينًا يستر البشرة
    • أن يكون قابلًا للمشي فيه
    • أن يكون مما يُلبس في العادة بدلًا من الخف

    ومن هؤلاء:

    • الشافعية
    • الحنابلة (في المشهور من مذهبهم)
    • المالكية

    قال الإمام ابن قدامة في المغني:

    "إن كان الجورب لا يُمكن متابعة المشي فيه، لم يصح المسح عليه."

  • تفصيل رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

    الشيخ محمد بن صالح العثيمين كان من أبرز المعاصرين الذين رجحوا جواز المسح على الجورب الرقيق، وعلل ذلك بعدم وجود دليل يُشترط فيه أن يكون سميكًا أو غير شفاف.

    قال رحمه الله:

    "يجوز المسح على الجوربين الرقيقين، ولو كان يرى من ورائهما الجلد، ولو كانا يمكن أن يمضي الماء منهما إلى القدم، وهذا القول هو الصحيح."

    وقال أيضًا:

    "ولو كان شفافًا، لأنه ليس هناك دليل على اشتراط أن تكون ساترة."

    وهو هنا يفتح باب التيسير إذا تحققت صفة "اللبس المعتاد" و"تسميته جوربًا"، دون توقف عند الثخانة أو الشفافية.

  • مناط الخلاف الفقهي

    يمكن تلخيص محور الخلاف الفقهي في المسألة في النقاط التالية:

    موضع الخلاف

    الفريق المانع

    الفريق المجوِّز

    ستر البشرة

    يشترط ستر الجلد (الشفافية مانعة)

    لا يشترط، يكفي وجود الجورب

    إمكانية المشي فيه

    شرط أساسي

    غير مشروط إن عُرف أنه جورب

    مانعية الجورب من نفوذ الماء

    شرط معتبر

    غير مشروط

  • الرد على من قال إن المسح على الرقيق بدعة

    بعض المعاصرين شدد في الإنكار على من يمسح على الجوارب الرقيقة، وذهب إلى وصف ذلك بأنه بدعة في الدين، وهذا وصف غير دقيق، لما يلي:

    • الخلاف في المسألة قديم، ومروي عن الصحابة.
    • القول بالجواز اختاره أئمة معتبرون كابن حزم وابن عثيمين.
    • قول الجمهور لا يُلزم غيرهم به، مادام ثمة قول معتبر من أهل العلم.

    تنبيه مهم:

    المسائل الخلافية لا تُنكر فيها المسائل المختلف فيها إن كانت معتبرة، بل يُنكر فقط إذا خالف المرء الإجماع أو خالف دليلاً قطعيًا.

  • هل الجوارب المعاصرة يُمكن المشي بها؟

    أحد الإشكالات التي أثيرت هو أن الجوارب المعاصرة (القطنية أو الصوفية) لا يُمكن متابعة المشي فيها، وبالتالي لا يصح المسح عليها. وهذا الزعم غير دقيق، بل:

    • كثير من الجوارب القطنية تصلح للمشي المعتاد
    • بعض أنواع الجوارب تستخدمها الجيوش وأصحاب المهن الشاقة
    • وبالتالي لا يُمكن تعميم الحكم بالبطلان على جميع أنواع الجوارب
  • ما هو القول الراجح؟

    بناء على ما سبق، يمكن ترجيح ما يلي:

    • القول بجواز المسح على الجورب الرقيق غير الشفاف قول قوي له أصل في أقوال الصحابة وبعض المذاهب، وقد اختاره بعض العلماء المحققين.
    • أما الرقيق الشفاف جدًا الذي يُظهر لون الجلد بوضوح، فالأولى عدم المسح عليه خروجًا من الخلاف.
  • خاتمة: ما هو الأحوط والأولى بالعمل؟

    رغم قوة القول بالجواز، إلا أن الأحوط للمسلم والمسلمة هو:

    • المسح على الجورب الثخين الذي يُستر فيه القدم ولا يُرى الجلد من تحته
    • ويُفضل أن يكون قابلًا للمشي فيه بشكل معتاد

    وبذلك يجمع بين الرخصة الشرعية والخروج من الخلاف الفقهي، وهو من منهج أهل الورع.