حكم الوضوء من الدم الخارج من غير السبيلين
تعرف على حكم خروج الدم من غير السبيلين وهل ينقض الوضوء، مع بيان أقوال المذاهب الفقهية وأدلتها، والحالات العملية مثل الجروح والعمليات الطبية، وفقًا لأقوال العلماء والراجح منها.

-
مقدمة
تُعد مسألة انتقاض الوضوء بالدم الخارج من غير السبيلين من القضايا الفقهية التي تكثر الحاجة إلى بيانها، نظراً لتكرارها في حياة المسلمين اليومية. فقد يُصاب المسلم برعاف أو جرح أو أي حالة ينزف فيها دماً من مواضع مختلفة من جسده.
وتكمن أهمية هذه المسألة في تأثيرها المباشر على صحة الصلاة وسائر العبادات التي تتوقف على الطهارة، كما أنها من مواضع الخلاف بين الفقهاء، مما يستدعي بحثاً علمياً دقيقاً ومقارنة وافية بين أقوال المذاهب.
-
أقوال المذاهب في الدم الخارج من غير السبيلين
1. المذهب الحنفي
يرى أن خروج النجس من البدن، سواء من السبيلين أو غيرهما، ينقض الوضوء.
قال الكاساني:
"سواء خرج من السبيلين أو من غيرهما: الجرح والقرح والرعاف".2. المذهب المالكي
لا يرى انتقاض الوضوء إلا بخروج شيء من السبيلين أو بزوال العقل.
قال القرافي:
"الخارج من الجسد من غير السبيلين لا يوجب وضوءاً".3. المذهب الشافعي
يتفق مع المالكية في أن الدم لا ينقض الوضوء، لأن الوضوء متعلق بالمخرج لا بعين الخارج.
قال الجويني:
"لا ينتقض الوضوء بخروج شيء من غير المخرج المعتاد".4. المذهب الحنبلي
- القول الأول (المشهور): الدم الكثير ينقض، والقليل لا ينقض.
- القول الثاني: لا ينقض مطلقاً.
قال ابن قدامة:
"إنما ينتقض الوضوء بالكثير من ذلك دون اليسير". - القول الأول (المشهور): الدم الكثير ينقض، والقليل لا ينقض.
-
أدلة القائلين بانتقاض الوضوء (الحنفية ورواية عن الحنابلة)
أ. من السنة
- حديث: "الوضوء من كل دم سائل" – رواه الدارقطني
- حديث عائشة: "من أصابه قيء أو رعاف... فليتوضأ" – رواه ابن ماجه
ب. من القياس
قاسوا الدم على الخارج من السبيلين بجامع النجاسة والخروج من الجسد.
ج. من المعقول
لأن الغاية من الوضوء التطهر من النجاسة، والدم نجس، فوجب الوضوء منه.
- حديث: "الوضوء من كل دم سائل" – رواه الدارقطني
-
أدلة القائلين بعدم انتقاض الوضوء (المالكية، الشافعية، ورواية عند الحنابلة)
أ. من السنة
- حديث أنس: "احتجم رسول الله ﷺ، فصلى ولم يتوضأ" – رواه الدارقطني
- حديث جابر: "أُصيب رجل بسهم، فركع وسجد ومضى في صلاته" – رواه البخاري تعليقاً
ب. من الآثار
- الحسن البصري: "ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم"
- ابن عمر: "عصر بثرة وخرج منها دم ولم يتوضأ"
- ابن أبي أوفى: "بزق دماً، ومضى في صلاته"
ج. من الأصول
- الأصل بقاء الطهارة
- النصوص لم تذكر غير السبيلين
- حديث أنس: "احتجم رسول الله ﷺ، فصلى ولم يتوضأ" – رواه الدارقطني
-
مناقشة الأدلة
1. مناقشة أدلة القائلين بالنقض
- ضعف الأحاديث: حديث تميم الداري وغيره ضعيف السند.
- فساد القياس: لأن الوضوء من البول والغائط تعبدي، لا تُعرف علته.
- وجود النص الصحيح المخالف: كحديث الحجامة.
2. مناقشة أدلة القائلين بعدم النقض
- قال المخالفون: "ربما توضأ النبي ﷺ ولم يُذكر"
- أو أن الدم كان قليلاً
- ضعف الأحاديث: حديث تميم الداري وغيره ضعيف السند.
-
الترجيح والقول المختار
1. التحليل
أدلة القائلين بعدم النقض أقوى من جهة السند والدلالة.
2. القول الراجح
الراجح: الدم الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، قليلاً كان أو كثيراً، للأسباب:
- أصح الأحاديث تدل على عدم النقض
- آثار الصحابة العملية
- الأصل بقاء الطهارة
- التيسير ورفع الحرج
3. الرأي الوسط
الاحتياط مطلوب، فمن توضأ خروجاً من الخلاف فقد أحسن، خصوصاً إن كان الدم كثيراً.
- أصح الأحاديث تدل على عدم النقض
-
التطبيقات العملية
نزيف الأنف (الرعاف)
- لا ينقض الوضوء
- يجب إزالة الدم وتنظيف المكان
- لا إعادة للوضوء
الجروح والخدوش
كثيراً ما يتعرض الناس للجروح في أعمالهم أو حياتهم اليومية، وقد يخرج من هذه الجروح دم قليل أو كثير.
الحكم العملي:
- إذا كان الدم قليلاً، فلا يُنتقض به الوضوء عند القول الراجح.
- إذا كان الدم كثيراً، فالأحوط أن يتوضأ الإنسان خروجاً من الخلاف.
- يجب تنظيف مكان الجرح وتطهيره، وإزالة النجاسة من البدن أو الثوب قبل أداء الصلاة.
- لا يجب إعادة الصلاة إذا لم يتوضأ وكان قد أخذ بالقول الراجح، لأن المسألة خلافية والراجح هو عدم النقض.
الأعمال الطبية والتمريضية
قد يتعامل بعض الناس مع الدم أثناء أعمالهم، مثل الأطباء والممرضين والكوادر الطبية.
الحكم العملي:
- لا يجب الوضوء عند ملامسة الدم، ما لم يكن هناك خروج دم من جسد الملامس نفسه.
- إن خرج دم من الممرض أو الطبيب أثناء العمل، فإن الراجح أنه لا يُنتقض وضوؤه، لكن يستحب الوضوء احتياطاً إن كان الدم كثيراً.
- إذا انتقل الدم إلى الملابس أو البدن، وجب غسل النجاسة قبل الصلاة، ولا علاقة لذلك بصحة الوضوء.
- إذا كان الدم قليلاً، فلا يُنتقض به الوضوء عند القول الراجح.
- لا ينقض الوضوء
-
الخاتمة
تُعدّ مسألة الوضوء من الدم الخارج من غير السبيلين من المسائل الفقهية الدقيقة التي دار حولها خلاف معتبر بين أهل العلم. وبعد دراسة أقوال المذاهب الفقهية وأدلتها، يتبين أن القول بعدم انتقاض الوضوء بالدم ـ سواء كان قليلاً أو كثيراً ـ هو الأقرب للصواب، لما ثبت من الأحاديث الصحيحة وآثار الصحابة، ولما يقتضيه الأصل في الطهارة.
ومع ذلك، فإن الاحتياط في الدين مطلوب، خصوصاً في المسائل التي كثر فيها الخلاف، لذا من الأفضل أن يتوضأ المسلم إذا سال منه دم كثير، خروجاً من الخلاف وتعظيماً للعبادة.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.