هَلِ الْأَصْلُ التَّعَدُّدُ أَمِ الزَّوْجَةُ الْوَاحِدَةُ؟
تعدد الزوجات من الأحكام الشرعية التي أباحها الإسلام بضوابط دقيقة تحفظ الحقوق وتحقق العدالة. وكثيرًا ما يثار الجدل حول حكم التعدد، بين من يراه واجبًا على القادر، ومن يظن أن الاقتصار على الواحدة هو الأصل. في هذه المقالة، سنوضح الحكم الشرعي للتعدد وفق أقوال الفقهاء، مع دعم الأدلة القرآنية والحديثية.

-
أولاً: حكم تعدد الزوجات: بين الإباحة والاستحباب
أجمع أهل العلم على أن التعدد جائز في الإسلام وليس بواجب، حيث قال الله تعالى في كتابه الكريم:
"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا" [النساء: 3].
وجه الاستدلال بالآية:
وهذه الآية الكريمة تدل على إباحة التعدد بشرط العدل، لكنها لا تدل على وجوبه. وذهب بعض العلماء إلى أن الاقتصار على الواحدة عند عدم الحاجة أفضل، استنادًا إلى نصوص أخرى في الشريعة تحث على العدل وتجنب الظلم.
-
ثانياً:هل التعدد هو الأصل في الزواج؟
انتشر بين بعض الناس القول بأن الأصل في الزواج التعدد، وأن الاقتصار على واحدة هو استثناء. إلا أن هذا القول ليس مشهورًا عند العلماء المتقدمين، بل إن ترتيب الآية لا يدل على ذلك، لأن سياقها كان في التحذير من ظلم اليتيمات.
قال الإمام السعدي في تفسيره لهذه الآية:
"وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء... ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال (مثنى وثلاث ورباع) أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثًا فليفعل، أو أربعًا فليفعل ولا يزيد عليها" (تفسير السعدي).
وبهذا يتضح أن الآية تدل على الإباحة والعدل بين الزوجات، لا على وجوب التعدد أو كونه هو الأصل.
-
ثالثاً: آراء الفقهاء في حكم التعدد
اتفق الفقهاء على أن التعدد مباح، لكنه قد يكون مستحبًا أو مكروهًا أو محرمًا، بحسب حال الرجل:
1. الإباحة: التعدد مباح للرجل القادر على العدل بين زوجاته، لقوله تعالى: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً".
2. الاستحباب: إذا كانت هناك حاجة، كعدم قدرة الرجل على الإعفاف بزوجة واحدة أو رغبته في الإكثار من النسل.
3. الكراهة: إذا كان يخشى عدم القدرة على القيام بحقوق جميع الزوجات.
4. التحريم: إذا كان الرجل متيقنًا من عدم قدرته على العدل، لأن الله تعالى قال: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً".
-
رابعاً: أقوال الفقهاء حول التعدد
· قال الإمام الشربيني الشافعي: "ويسن أن لا يزيد على امرأة واحدة من غير حاجة ظاهرة" (مغني المحتاج).
· قال الماوردي الشافعي: فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا بِقَوْلِهِ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَنَدَبَهُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
· وقال الإمام المرداوي الحنبلي: "ويستحب أيضاً أن لا يزيد على واحدة إن حصل بها الإعفاف على الصحيح من المذهب" (الإنصاف).
· وقال البهوتي الحنبلي: "ويسن نكاح واحدة لأن الزيادة عليها تعريض للمحرم" (الروض المربع).
· وقال ابن العربي المالكي في أحكام القران: فإذا قدر الرجل من ماله ومن بنيته على نكاح أربع فليفعل، وإذا لم يحتمل ماله ولا بنيته في الباءة ذلك، فليقتصر على واحدة.
-
خامساً: اقوال لبعض العلماء ممن يرون ان الأصل التعدد وليس الزوجة الواحدة
· يقول ابن عثيمين : فاشترط لذلك (أي التعدد)العدل، ولم يشترط رضا الزوجة الأولى أو علمها ونحو ذلك، ومن لم تعفه واحدة وخشي الفتنة وجب عليه الزواج من ثانية، قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: إذا كان الإنسان يرى من نفسه أن الواحدة لا تكفيه ولا تعفه فإننا نأمره بأن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، حتى يحصل له الطمأنينة، وغض البصر، وراحة النفس.
· يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله : زواج الأصل هو من تزوج باثنتين .. ونص القرآن الكريم :: وانكحو ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ... بدأ بالتثنية فأما زواج الخائف هو من تزوج بواحدة لقوله تعالى :: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ماملكت أيمانكم
· وقال ابن سينا: إن الرجل إذا كانت له زوجة واحدة ابتلي في جسده ونفسه وأدركه الهرم وهو في عنفوانه، وقيل لابن يونس المزني: لم اليهود والنصارى تركوا التعدد؟! ، قال: أولئك أقوام قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة.
-
الخاتمة
بناءً على ما سبق، فإن القول بأن من يستطيع التعدد يأثم بتركه قول غير صحيح، ولا يعرف له قائل من أهل العلم. والأصح أن التعدد مباح وليس واجبًا، والاقتصار على واحدة قد يكون أفضل في بعض الأحوال. المهم في الأمر كله هو تحقيق العدل، كما أمر الله في كتابه الكريم، وتجنب الظلم، لأن الظلم من أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة.