حكم التبرع بجزء من الكبد في الشريعة الإسلامية
تتناول هذه المقالة حكم التبرع بجزء من الكبد، وخاصة للوالدين، في ضوء الشريعة الإسلامية، مع بيان آراء العلماء والفتاوى الصادرة عن الهيئات الشرعية المعتبرة، مثل الشيخ ابن عثيمين ومجلس الإفتاء الأردني، وبيان الشروط الشرعية للتبرع، والفرق بين التبرع بالكبد وسائر الأعضاء. المقالة تزود القارئ برؤية فقهية متوازنة تجمع بين التأصيل العلمي والرحمة الإنسانية، مع تسليط الضوء على الجوانب الطبية والشرعية والإنسانية.

-
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن الإسلام دين الرحمة والإنسانية، يحثّ أتباعه على بذل المعروف، والتعاون على البر، ومواساة المريض، وتخفيف آلام المحتاج، ومن صور هذا التعاون: التبرع بجزء من أعضاء الإنسان – في حياته – لإنقاذ مريض أو مساعدته على العلاج. ومن أبرز صور التبرع في الطب الحديث: التبرع بجزء من الكبد، وهو ما نخصص له هذه المقالة لبيان حكمه الشرعي وضوابطه وفق أقوال العلماء والمجامع الفقهية.
-
مكانة الإحسان في الإسلام
قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32]. فإحياء النفس وإنقاذ المريض مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وهو من أعظم أبواب الأجر، خصوصاً إذا كان المتبرع أحد أقارب المريض، كالأم أو الأب أو الطفل.
-
الحكم العام للتبرع بالأعضاء
اتفق علماء العصر، من خلال المجامع الفقهية وهيئات الفتوى، على جواز التبرع بالأعضاء في بعض الحالات، بشروط وضوابط دقيقة. وهذا الحكم مبني على قواعد الشريعة في رفع الحرج، وتحقيق المصلحة، ودفع الضرر، وقاعدة "الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه".
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله –:
"فلا يحل لأحدٍ أن يتبرع بشيءٍ من جسده، لا في حياته، ولا بعد موته، إلا شيئاً واحداً، وهو الدم، بشرط ألا يتضرر بسحبه منه، وأن ينتفع به المريض".
وأضاف أن السبب في جواز التبرع بالدم هو أنه يتجدد، بخلاف بقية الأعضاء.لكن في ضوء التقدم الطبي، أصبح معروفاً أن الكبد أيضاً يتجدد بعد اقتطاع جزء منه، مما جعله مشابهاً لحكم الدم في كثير من الجوانب.
-
حكم التبرع بجزء من الكبد تحديداً
أجمع العلماء المعاصرون على جواز التبرع بجزء من الكبد لمن يحتاجه، إذا تحققت شروط السلامة والفائدة، نظراً لأن الكبد عضو فريد في خاصية التجدد الذاتي، حيث ينمو الجزء المتبقي ويعود لحجمه الطبيعي خلال أسابيع أو أشهر قليلة.
وقد صدر بذلك قرار رقم (166) بتاريخ 28/7/2011م عن مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية، نص فيه على:
"يرى المجلس أن التبرع بجزء من الكبد لمن يحتاج لزراعته جائز ولا حرج فيه إذا تحققت الشروط الشرعية، بل إن من تبرع بنية الإحسان فله الأجر على ذلك".
-
الشروط الشرعية للتبرع بجزء من الكبد
يشترط العلماء والمجامع الفقهية عدة ضوابط لجواز التبرع بالكبد، منها:
1. أن يكون المتبرع كامل الأهلية، بالغاً عاقلاً مختاراً، لا يُجبر ولا يُكره.
2. ألا يُحدث التبرع ضرراً بيّناً أو دائماً على صحة المتبرع، استناداً لقاعدة: "الضرر لا يزال بضرر مثله".
3. أن يكون التبرع خالياً من أي مقابل مادي، لأن بيع الأعضاء محرم شرعاً.
4. أن تكون زراعة الكبد هي الوسيلة الطبية الوحيدة المتاحة لعلاج المريض.
5. أن يُرجّح الأطباء المختصون نجاح العمليتين: النزع من المتبرع، والزرع في جسد المريض.
-
موقف المريض ووليّه من التبرع
إذا كان المريض (كالأم) بحاجة ماسة لزراعة الكبد، وكان الابن أو القريب مؤهلاً للتبرع – لكن وليّه متردد أو يخشى عليه الضرر – فلا إثم عليه إن رفض، ما دام الضرر محتملاً أو مؤكداً. وقد سبق أن أفتى العلماء بأن التداوي في الأصل مباح، وليس واجباً، خاصة إذا غلب الظن بعدم نجاح العلاج، أو ترتب عليه أذى.
ومن الفتاوى التي نصّت على هذا: فتوى موقع "إسلام ويب" رقم: [27266] والتي جاء فيها:
"مذهب جمهور العلماء أن التداوي مباح، لا يجب على المسلم إلا في حالات خاصة...".
-
أهمية الاستشارة الطبية الشرعية
يجب على المتبرع والمريض وذويهم استشارة الأطباء الثقات المتخصصين، وطلب الرأي الشرعي من العلماء المعتبرين، لتجنب الوقوع في الضرر أو الإثم. فالشرع لا يجيز التبرع المطلق دون تقدير المخاطر، بل يشترط التوثق من الفحوصات والتقارير الطبية.
-
خاتمة
إن التبرع بجزء من الكبد لوالد أو قريب أو حتى مريض غريب، إن توفرت شروطه الشرعية والطبية، فهو من أعظم أبواب الإحسان والأجر. وقد أقرّ العلماء جوازه، بل رأوا فيه تطبيقاً حيّاً لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
وعلى المتبرعين والمحتاجين أن يُحسنوا التوكل على الله، ويحرصوا على استشارة الأطباء الشرعيين والثقات، ويتجنبوا التهور أو التردد دون سبب.
نسأل الله الشفاء لكل مريض، والعافية لكل مبتلى، والأجر لكل محسن.